الحج واستعادة التوازن

هناك، حيث يموت الزيف وتضيع الأوهام، تتساقط علياء البشر وتذوب كل الفوارق، لا الأنساب باب دخول، ولا الأموال صك قبول، ولا السلطان والجاه طريق للرضوان. بكلمة لبيك اللهم تتسيّد قيم النور وتتلاشى ظلمات الطغيان، لا العرق الأسمى.. لا اللون الأنقى.. لا الجنس الأعلى.. فقط تقوى الله هي العليا.

في مشهدٍ هو الأصفى، ينادي مناد الله سبحانه كل بشر الأرض لنُسُكٍ واحد ممدود منذ قديم الأزمان، يأمرهم بلبوس الأبيض، ويدعوهم لهتافٍ واحد. يلزمهم بشعائر واحدة، لا يتقدم أحدهم الآخر ولا يعلو إنسانهم آخر، في صورة بديعة تعكس مساواته جلّ وعلا بين عباده.

في حرم الله يقف رجال وتقف نساء، تتوحد أرواحهم تلبيةً لنداء إبراهيم (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) وتتوحّد تكاليفهم وتتطابق عبادتهم، لا امرأةً طوافها ومسعاها أقلّ من رجل، ولا رجلاً صلاته وجماره أكثر من امرأة. مواقيتهم واحدة ومناسكهم واحدة، أضحياتهم واحدة وعقباتهم واحدة. في أرض مِنى لا تمييز بين أمانيهم، وفي عرفات لا يُعرف فضل إنسان على إنسان، وفي المزدلفة لا زلفى لرجل دون المرأة.

حظوظ عادلة لِشِقيّ النفس الواحدة ذَكَرُها وأنثاها بلا تمييز. جنباً إلى جنب وباستقامة واحدة وخطوة واحدة، كانوا كذلك وسيبقون حتى نهاية الزمان، عدالة ومساواة لا نظير لها ولا شبيه، أرادها الديّان وارتضاها لعبادة وجعلها في موئل بيته. هكذا هو الحج فريضة الرحمان، لا يملك الإنسان فيه إلاّ ذاته وعمله وفعاله، ولا أهلية له غير نقائه وإخلاصه، لا امتيازات ولا استثناءات، إنه المعيار السماوي الذي لا يقبل غير التقوى والعمل الصالح.

هكذا الحج كان وسيبقى، ولكن.. هل هكذا الحجيج كانوا وبقوا وسيكونون! أم هي أيام من الطيب والطهر تمضي وتنتهي قصتها!. إن للحج رسالة مستمرة لا تنتهي بانتهاء مناسكها، رسالة تتعدى المكان والزمان، تعود مع الحجّاج إلى أوطانهم، ليقرؤوها كل يوم حلولاً لمشاكلهم، ودواءً لآفاتهم، وعلاجاً لأنانيتهم وجهلهم. وهي تحسيناً وتطويراً ونهوضاً لا ينتهي. فكيف يكون الحجّاج حجّوا وتضيع بعودتهم إلى الأوطان، قيم الخير والإنصاف التي عرفوها عند البيت الحرام؟

هي معاني جليلة وعظيمة تلك التي ترسّخها فريضة الإسلام الحج، وإحداها هو تطبيق مبدأ المساواة بين عباد الله في إعطائهم الفرص، بلا فرق ولا تمييز بين رجل وامرأة، ليؤدوا أدوارهم الإنسانية وتكاليفهم الحضارية والتنموية. فكما كانوا في بيت الله في صفٍ واحد، لا يجب إلاّ أن يكونوا كذلك في أوطانهم ومدنهم وقراهم، إزاء مشاكلهم وقضاياهم وأزماتهم. فكلُ مؤمن بالله وبفريضة حج بيته عليه أن يحيا الحج بمضامينه الإنسانية والعملية، ويحيل نُسُكه برنامج حياة، فلا رجل يُقصي امرأةً أبداً، ولا امرأة ترضى بأن تحيا دون الإنصاف.

إن مجتمعاً يعي روح الحج ويدرك معانيه، لا يرضى بتعطيل نصفه “المرأة” لوهّمٍ زائف أن لا أقدر ولا أعقل إلاّ النصف الآخر. ولا أمةً تنهض أو تتحضّر إلاّ إذا اجتمع الناس عاملين لنماء مجتمعهم وبناء إنسانهم. متساويين في ذلك رجالاً ونساء، يمايز بينهم العلم والمعرفة والكفاءة على صعيد دنياهم، والحق والعدالة والقيم على صعيد دينهم.

هي دعوة تتكرر في كل موسم، ومن بيت الله وحرمه تنشد حجاً نعي كل معانيه.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية

naeimaar@yahoo.com

مقالات ذات صلة

لكي نزدهر

هنا الخلوة رغم الاكتظاظ، هنا التضحية رغم التماس النوال، هنا البياض رغم تفاوت الألوان، هنا “لبيك الله” رغم أنفس لم تعتد إلاّ لبيكِ نفسي وحياتي…

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *