الزواج.. من عقلية الأنا إلى عقلية الآخر

” تزوجنا، وكل ما نعرفه أننا نحب بعضنا، وأننا مُصرّان على الاستمرار في الحياة معاً، وعلى الرغم من أننا لم ننجح بشكل كامل ومسالم في توصيل مودّتنا لبعضنا، إلا أننا كنا نؤمن أن أية مشاكل سنمرّ بها سيمكننا أن نحلها فقط لو تزوجنا. كل منا ظن أن الآخر قادر على تسديد احتياجاته وإشباع رغباته. كنا نتشاجر للمرة الخمسمائة تقريباً بشأن نفس الأزمات القديمة المرتبطة باحتياجاتنا الغير المسددة وبإحباطاتنا الغاضبة. وجدنا أن الحب قد نضب من وعائينا. ومع هذا فقد بدأت أحلك اللحظات حين أصبح كل منا مقتنعًا أننا قد ارتكبنا غلطة.  لو كنا فقط قد اخترنا الشخص الصحيح لنتزوج منه، لما كنا نعاني من كل هذه المشكلات الآن”.

تلك كلمات حقيقية تمتم بها زوجان في نهاية حياة زواجهما، فبعد مرور سنوات بسيطة من الزواج، يكتشف الزوجان أن السعادة التي كانا يتوقعانها وينتظرانها لم تكن أكثر من وهم، وأن حياتهما صارت بائسة، فيقرّران الانفصال حيث يزعم كل منهما وصولهما لنقطة اللا عودة، وأن المشاعر المتهيجة التي قادتهما للارتباط قد تبدّدت، فلم يعد هناك أي حب جامع بينهما يستحق البقاء سوياً!!

فبالرغم من أن ما توصل له الزوجان يتضمن الكثير من الوقفات التي تتضمن ثنايا المشكلة والحل في آن حين التدقيق وراء الكلمات المنطوقة، لكن يبقى السؤال الأهم في هذه القصة أو غيرها من القصص المشابهة التي تتضمن فشلاً في الاستمرار بعد فترة وجيزة من الزواج هو لماذا تنتهي الكثير من العلاقات الزوجية لهذه النتيجة البائسة، ما هو الجوهر المفقود في تلك العلاقات منذ بداية تأسيسها ويشكّل لاحقاً تهديدًا لبنائها.

سنتناول في هذا المقال المدخل الصحيح للعلاقة الزوجية الذي من المؤكد أنه سيغيّر واقع الزواج الراهن إلى القدر الحقيقي المقدّر له بأن يحيّا الزوجان حياة مفعمة بالمحبة والسعادة، لأن الدخول إلى تلك المؤسسة من الباب الخاطئ ما هو إلا بمثابة المضي في طريق مجهول وغير آمن للمؤسسة الزوجية، وحتماً لن يقود إلى الزواج وفق الإرادة الإلهية التي صممت الزواج ليكون السكن وموطن الأمان والاستقرار.

أولاً: تصميم الله في الزواج

حين تسأل مهندسا بارعا كيف صمّم بناء معينا، سيجيب بالطبع مواصفات هذا البيت كبناء متين يرتكز على قواعد وأساسات قوية، وربما يضيف بأن القواعد مصممة بهندسة معينة وحسابات دقيقة تعين البناء على تحمّل الهزات الأرضية الخفيفة، وقد تكون الجدران عازلة للحرارة وغيرها من المواصفات التي تكشف قوة هذا التصميم وبراعة المصمّم، من ناحية أخرى، علينا أن نتذكر بأن الزواج هو تصميم أيضاً، ولكنه تصميم كامل خالٍ من أي نقص، فإذا كان التصميم الهندسي لأي بناء يحتمل نسبة من الخطأ قد تسبّب نتائج فادحة، فالزواج ليس كذلك، ولا توجد نسب للخطأ في تصميمه ولو كانت كسوراً، لأن الله هو من صمّمها وأحكم بناءها، والفشل في الزواج ما هو إلا نتاج النقص في فهم منظومة الزواج واحتياجاتها النفسية والعاطفية، لا خطأ في التصميم، فالتصميم الإلهي للزواج هو في تزايد قوته وبركاته عبر السنوات، والاعتقاد بأن السعادة في الزواج فقط في البدايات، فهذا ما هو إلا نتاج قناعات وفهم خاطئ للنظام الذي تأسست عليه العلاقة الزوجية من الأساس.

في كتاب “زواج على الصخر” (Marriage on the Rock)، يذكر المؤلف بأن التصميم الكامل والمتقن للعلاقة الزوجية من خلال 8 احتياجات نفسية وعاطفية، الله أودعها عند الجنسين (الاحترام- الأمان- الحنان- التواصل المنفتح- القيادة- الجنس – الشراكة الأسرية الحميمية- الدعم الأسري)، ويؤكد بأن فهم هذه الاحتياجات وتلبيتها بالصورة الصحيحة تشكّل الخطة الإلهية للسعاة الزوجية، لأنها جزء من التصميم المحكم والنظام الكامل، لذا فهندسة الزواج هندسة دقيقة جدا، ولابدّ من فهم احتياجاتها فهماً صحيحاً وعميقاً، وإلا نكون قد وضعنا قدر أعمق علاقة إنسانية في مرمى العشوائية.

فالمؤسسة الزوجية مؤسسة تم تصميمها بإتقان، لتتضمن أعلى معايير الجودة والنجاح، قدرها المودة والسكن والرحمة، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الروم 21، والثقة في التصميم هي نقطة الانطلاق الأولى للعودة لقدر هذا الرباط وفق رؤية من هندسها وصمّمها بعناية فائقة (الله عز وجل).

ثانياً: الأسرة.. كيان مقدس

بالرغم من أن هناك الكثير من  يؤمن بأن المؤسسة الزوجية كيان مقدس، ولكن يبقى الأهم هو في فهم معنى القداسة وانعكاسها معنوياً على طبيعة العلاقة وبناء الزواج، تلك التي يمكن التماسها في التوصيف القرآني حيث وصفت العلاقة الزوجية قرآنيا بأنها ميثاق غليظ (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء21)، إلا أن الفقه أطلق على الارتباط الشرعي بين الرجل والمرأة عقدًا، وذلك لما عرّف العقود بأنَّها اتفاق بين طرفين كالبيع، ولكنَّ هذه الشكلية القانونية خالفت تسمية القرآن حيث سماه ميثاقًا ونعته بالغليظ، وكذلك عند المسيحية، فقد وصف الكتاب المقدس الزواج بالميثاق Covenant، وهذا النعت يبيّن ضرورة الوفاء به، إذ المواثيق عهود ولكنها عظيمة الحرمة وليست عهودًا اعتيادية، فقرآنيا هناك ميثاقان نعتهما الله بالغلظة، ميثاقه مع بني إسرائيل في قوله سبحانه: (وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (النساء: 154)، والثانية في ميثاقه مع الأنبياء عليهم السلام: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا) (الأحزاب: 7)، وليس ثمة من هو أوفى بالميثاق منهم عليهم السلام.

الدخول في المؤسسة الزوجية يتطلب الوعي بهذه التسمية على مستوى الفهم أولاً، فالزواج هو عهد بين الزوجين والله بشكل مباشر، ولذلك فالمواثيق هي عهود شديدة الحرمة، وهذا ما يُلزم (الزوجين) لتحمل مسئولية الوفاء بهذا الميثاق، لأن الفشل في الوفاء به قد يلحق أضرارًا كبيرة على الطرف المتعهد (الزوجين)، ففيه خرق لعهد عظيم الحرمة مع الخالق، وما قد يستتبع ذلك من ضرر وآثار وخيمة على المجتمع ككل لأن الأسرة نواة المجتمع.

الزواج بين العقد والميثاق:

ولبيان الفرق بين العقد والميثاق في القرآن من حيث الأهمية، لا نجد في القرآن آية تتحدث عن العقود على نحو قانوني مباشر إلا آية منفردة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:1)، ولا يعني هذا أن الوفاء بالعقود أمر ليس ذا أهمية، بل جعله الله من لوازم الإيمان، ولكنَّه بلا شكّ أقل من حيث الأهمية والخطورة على الدين والإيمان من نقض المواثيق المغلظة.

العقد في القانون هو اتفاق بين طرفين أو أكثر يتعهد فيه كل منهما بأشياء أو وعود متبادلة بحيث ينفذها القانون، وهي ليست أبدية، فالعقد له وقت بدء ووقت انتهاء معين، كما أن العقود شرطية (IF…,Then….)، بمعنى أن ما تعطيه مرتبط بما تأخذه “سأعطيك بقدر ما تعطيني، والا فلا!”، بينما المواثيق قرآنياً هي عهد من طرف واحد، وهما الزوجان في حالة الآية المذكورة، فهما الطرف الملزم بالوفاء لهذا الميثاق وبلا شروط على الله.

لتقريب الصورة في الفارق بين الاثنين، لنلاحظ الفرق بين عقليتي المالك والمستأجر في منظورهما للبيت، فلو كنت مستأجرًا لبيت ما واكتشفت وجود خلل جسيم في البنية التحتية له يستلزم منك إنفاق أموال طائلة للقيام بأعمال الصيانة والترميم، فحتماً ستفكّر في بيت بديل لا يكلفك المال والجهد، وذلك باختصار لأن البيت الذي تسكنه هو سكن مؤقت وليس ملكاً لك، ولكن فكّر ماذا ستكون ردة فعلك حين يكون هذا البيت هو ملك لك، فهو بيت يختزن ذكريات طفولتك، وتملك فيه معنى كبيرًا، حينها ستكون مستعداً لإنفاق الكثير من المال لصيانته، لأن المعنى الذي يقودك للبيت أكبر مما ستنفقه في العناية به وصيانته.

الدخول الجزئي في الزواج، هو الدخول بعقلية المستأجر، فالانسحاب الفوري هو الحل لأي مشكلة تتم مواجهتها، لأن الزوجين غير مستعدين لبذل أي جهد أو دفع أي تكلفة إلا بمقدار ما يحصلان عليه من منفعة، بينما الدخول الكلي يعني الدخول بعقلية المالك، والتي تفرض العمل وبذل الجهد والتضحية، فالزوجان متمسكان بالحفاظ على رباطهما مهما كانت الصعوبات والتحديات، لإدراكهما معنى الزواج وبأنهما في عهد مع الله، فالانسحاب الفوري والهروب لا يصلح للتعامل مع المواثيق، ولاسيما إذا كان ميثاقا غليظا وليس كأي ميثاق.

كزوجين أو أي جنسين مقبلين على تأسيس علاقة زوجية جديدة، قد لا يثير اهتمامنا إذا كان مسمى زواجنا عقداً أم ميثاقاً، لأننا قد نراه وجها تنظيريا بعيدا عن الواقع وتحديات الحياة اليومية، لكننا في هذا المقال حين نتكلم عن ضرورة إدراك أبعاد هذه التسمية وفهم تجلياتها في واقع الزواج، فنحن نتحدث عن منطق تفكير يحكم شركاء هذه المؤسسة، فأعمالنا في الواقع هي نتاج المنطق الذي نفكّر به والمنظور الذي نرى من خلاله، وإذا كانت الفكرة التي نؤسّس عليها حياتنا خاطئة والمنطق الذي نبني عليه معوّجاً، فحتماً سيهدد هذا مصير حياتنا.

ما هو نمط التفكير الذي يحكمنا كزوجين؟

أو الذي نريد أن نؤسس عليه ارتباطنا؟

منطق العقود (الحقوق/ القانون) أم منطق المواثيق (المسئولية/الحب)؟

في منطق العقود تُعدّ الحقوق هي الأولوية، لأنه منطق تجاري قائم على الربح والخسارة، فكيف يمكنني كطرف في هذه المؤسسة (زوج /زوجة) الحصول على أكبر قدر من الحقوق قبال أقل مسئوليات ممكنة، لذلك فالعلاقة بين الزوجين تُبنى بشكل كبير على التوقعات، لأن كلا منهما ينتظر من الآخر أن يلبى احتياجاته ويحقق سعادته (حقوقه)، متجاهلاً مسئوليته “هو” تجاه الآخر، لذا، فعدم الإيفاء بهذه التوقعات يشكّل إحباطا عميقا للزواج بحسب منظورهما، فالمشاعر متقلبة لأنها مبنية على مكاسب متوقعة من الشريك، ولا يتكشف هذا النمط من التفكير إلا في المحن والتحديات التي يواجهها الزوجان في مسيرة الحياة الزوجية، حيث يكون كل منهما غير مستعد لأن يقدّم أي شيء من نفسه لاستدامة الزواج، لأن مخزون حب الذات يفوق أي قيم ومعانٍ أخرى، فجل ما يفكّر فيه كل طرف هو مقدار ما قدّمه “هو” من تضحيات وخدمات لم يقدّرها الطرف الآخر ويعوضه بمثلها، لذا فالطلاق هو الحل الأمثل للخروج من دائرة الضحية والانتهاك الواقع هو فيها.

 التوقعات الخاطئة سبب فشل الكثير من العلاقات الزوجية لأنها قائمة على مبدأ (أخذ وعطاء) بشكل أقرب ما يكون إلى التبادل التجاري، فعطاء كل شريك مبنى على ما حصل عليه من الآخر (الأخذ) والذي هو ثمن عطائه، في حين إرادة الله لتلك العلاقة هي أن تسمو على المصالح المادية إلى علاقة روحية قائمة على العطاء والمحبة وبلا شروط.

إذن كزوجين، علينا أن نختبر منطقنا وأسلوب تفكيرنا، هل هو منطق تجاري خاضع لمنطق الربح والخسارة، لأنه بالتأكيد إن كان كذلك، يؤسفنا أن نقول أن التعاسة هي قدر هذا الزواج، لأن هذا النمط من الزواج غير قادر على الصمود أمام معتركات الحياة، وبعيد كل البعد عن قصد الله ومراده، وسيتهاوى بالتأكيد أمام أول عقبة يواجهها الزوجان في بداية ارتباطهما.

لكن دعونا نقرأ ماذا تقول لنا كلمة “ميثاق” الربانية (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا)، وكيف يمكننا أن نلتمس من جوهرها المدخل الصحيح للزواج، فتلهمنا الود والحب العميق الذي طالما يبحث عنه أي زوجين.

لأن الميثاق هو عهد شديد الخصوصية، فهو يفرض ذهنية مختلفة حين التفكير في مؤسسة الزواج، فبدلاً من منطق (حقوقي)، تصبح (مسئوليتي) هو المنطق الذي يفكر به الزوجان ويسعيا معاً لبناء حياتهما، فحين نتأمل لوهلة كيف يمكن أن تكون حياة زوجية حين يفكر كل طرف فيها في مسئوليته “هو” لا ما يجب على الآخر (زوج/زوجة)، فالنتيجة بالتأكيد ستكون زوجين مضحيين ومتفانيين في خدمة بعضهما وبلا توقعات، فما يشغل حيز تفكير كل منهما هو ” كيف يمكنني الوفاء بعهدي؟، ماذا يمكنني أن أفعل لتحسين علاقتنا؟، كيف يمكنني خدمة شريكي وتحقيق سعادته؟، كيف يمكنني أن أساهم في نموه وتطويره؟، ما هي جوانب القصور التي تعتريني وكيف يمكن أن أحسّنها لأكون الشريك المناسب؟”، أليست تلك هي الجنة الزوجية التي نبحث عنها وينعم أي زوجين فيها بالسعادة، هي جنة خيار تحقيقها بين أيدينا، وذلك حين نقرّر كزوجين تغيير منظورنا بأن نكون مسؤولين عن ارتباطنا، فاعلين في تأسيس محبتنا، فالله يعد هذه المؤسسة بالمودة والرحمة (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) حين الالتزام بشروطها والأخذ بأسباب نجاحها، كل ما علينا هو الدخول للمؤسسة من مدخلها الصحيح الذي يخبرنا بأننا “مسئولون عن نجاحها” ليغمرنا الله بسعادة تفوق توقعاتنا، فالتخطيط للفشل يبدأ حين يدخل الشركاء المؤسسة الزوجية مستسلمين للوهم “شريكي سيسعدني أو شريكي مسؤول عن سعادتي!”، غافلين بأن مفتاح السعادة التي نبحث عنها هي في “سأعمل ما في وسعي لإسعاد شريكي”.

حين نصحّح منظورنا للزواج وفق كلمة الله ملتزمين بالعهد، سيكون الحب الذي نبحث عنه هو النتيجة التي نحصدها، بل هي الهدية الربانيّة التي يمنحها الله لزوجين صادقين في بناء زواجهما، لأن الحب ليست مشاعر مجرّدة بل هي فعل ومسئولية ابتداءً، والثبات على ذلك بصدق وإخلاص سيثمر المشاعر والحميمية التي نبحث عنها، يقول العالم النفسي ايريك فروم في كتابه الشهير “فن الحب” الذي يُعدُّ من أهم مراجع التحليل النفسي في مفهوم الحب: (الحب فعل، ممارسة للقوة الإنسانية التي لا يمكن ممارستها إلا في الحرية وليس إطلاقا كنتيجة إرغام، الحب هو “العطاء” وليس “التلقي”)، فتخبرنا هذه النتيجة بأن الحب خيار صنعه بين أيدينا، وبأننا كلما أعطينا كلما ازددنا حباً، فحبنا مرهون بقدرتنا على العطاء للآخر لا الأخذ من الآخر!.

المسئولية هي ما تحثنا عليه كلمة “ميثاق” الربانيّة، وهي الضمان لحماية العلاقة التي تربط أي زوجين حين مواجهة أي أزمة في حياتهما، فالكثير من المشاكل الزوجية التي تنتهي بالانفصال مردها إلى زوجين يتهم كل منهما الآخر بالتقصير وعدم القيام بواجباته الزوجية.

تروي المؤلفة كاري ايفانز في كتابها )من الألم إلى الجنة، من الانكسار إلى الرحمة From Pain to Paradise) قصة زواجها الذي أوشك على الانهيار، وإنَّ تشافي علاقتها مع شريك حياتها لم يكن ليحدث إلا حين قرّرا كزوجين أن يكونا مسئولين عنها، فاتهام  كل منهما للآخر بالتقصير وعدم القيام بواجباته لم يثمر إلا الألم والإمعان في دوامة اليأس والإحباط، حتى جاءت اللحظة التي قرّر كل منهما البحث عميقاً في نفسه وعن مسئوليته الحقيقية في إصلاح ما عطب، فكانت هي لحظة التحول والتشافي التي وهبها الله لزواجهما،  وتؤكد بأن وجود الله طرف في العلاقة الزوجية ممكن أن يصنع قدرا جديدا للعلاقة الزوجية، فتقول: (الله قادرٌ على أن يفعل المستحيل. لو خضعت له وسمحت له بأن يكون الطرف الثالث في زواجكما، فسيفاجئك وسيفعل أكثر جدًا من كل تخيلاتك التي ظننت أنها ممكنة).

اذن، كلمة (ميثاق) الربانيّة تذكرّنا بأننا في عهد خاص مع الله، وأن الالتزام بهذا العهد يضمن لنا السعادة التي نبحث عنها، بل ويلهمنا المحبة التي بها يستدام ويستقر الزواج، وهذا ما يستلزم التحول الجذري في منظورنا لمؤسسة الزواج من عقلية الأنا(حقوقي) تلك التي تبحث عن سعادتها فيما سيقدّمه لها الشريك، إلى عقلية العطاء للآخر(مسئوليتي) تلك التي تبحث عن سعادتها في العطاء للشريك، إنها حقاً سعادة ليس لها مثيل!، تلك السعادة التي تنبع من الداخل، من الصعب أن يفهمها إلا أولئك الأزواج الذين اختبروها في أحلك الظروف، فتجلى لهم الحب في أسمى معانيه، فبدا أكثر توهجاً، رغم ضيق العيش وبساطة الحياة وضغوطاتها في أحيان كثيرة.

ليس من الأكيد أن يؤدي هذا التحول إلى خلق حياة زوجية بلا مشاكل، لأن هذا النمط من الحياة لا مصداق له في إلا في خيال المراهقين وأفلام السينما الغنية بأوهام السعادة والحب في الزواج، ولكن من الأكيد أن التغيير في منظورنا والدخول للمؤسسة الزوجية من مدخلها الصحيح سيضمن الحكمة في معالجة الكثير من المشاكل المستعصية التي تزخر بها القضايا الزوجية، وسيضمن أن يتحلى الزوجان بعد سنوات من الزواج بالنضج الذي يُمكنهما من فهم وحب بعضهما بشكل أعمق، وأن المشاكل ومعالجتها تشدّ عود الزواج وتقويه، لا أن تقود إلى الصراعات وتنتهي بما يكره الله، أبغض الحلال!.

بقلم: م. أسماء رجب

مقالات ذات صلة

حوار مع الدكتورة/ وجيهة صادق البحارنة – رئيسة جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

كيف نشأت فكرة تأسيس جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية ؟وإلى ما يرجع التميز في برامج وأنشطة الجمعية؟ جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية منظمة استشارية في المجلس الاقتصادي…

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *