الصرّاف الآلي

انتظر إجازة نهاية الأسبوع لألتقي بأهلي وأقربائي في منزل العائلة الكبير حفاظا على استمرارية الروابط الأسرية والعلاقات الحميمية خاصة بين الأجيال الثانية والثالثة من الأبناء في خضم أمواج التحديات والمتغيرات المجتمعية، وبالطبع تأتي أغلب الأسر النووية مع العاملة المنزلية خاصتهم للتعاون مع زميلاتهن في تهيئة الوجبات ووسائل الراحة والمتعة لتجمعات العوائل، بينما هي محرومة منها.

تقول إحدى العاملات التي أمضت أكثر من عشرين عاماً في البلاد: لن أعود إلى دياري رغم جهوزية منزلي، فقد توفي والداي وإبني الوحيد أنهى دراسته الجامعية والتحق للعمل بمنطقة أخرى، أما بقية الأقارب لا ينتظرون منّي إلا المبلغ الذي أرسله نهاية كل شهر.

وتقول أخرى: أُرسل كل ما أتحصّل عليه من أموال لدراسة ابنتي في الجامعة وبناء بيت العمر، إلّا أن ابنتي اختارت أن تترك الدراسة وتذهب للسكن مع حبيبها، وترد عليّ بكل جرأة “أين أنت من حياتي كي تخططي ما أفعل وما لا أفعل؟”.

وفي يوم سمعت صراخ ونحيب العاملة، وبهلع ذهبت لأستفسر منها عن السبب فأخبرتني بوفاة والدها، وبعد هدوئها سألتها إن كانت تريد السفر للعزاء، فردت عليّ: كلا فأهلي بحاجة لراتب الشهر أكثر من رؤيتي هناك بجوارهم.

وعلِمَت أختي بإصابة عاملتها بمرض السرطان قبل انتهاء فترة التعاقد معها، وبمبادرة منها أعطتها مبلغا محرزا من المال كي تمضي فترة العلاج بجوار والدتها لترعاها، وبعد التواصل أخبرتها بأنها صرفت المبلغ كاملا لقضاء احتياجاتهم ولم تتلق أي علاج.

ولا يقتصر الأمر على عاملات المنازل فقط، فهو عينه ما يحدث مع بقية العمالة الوافدة من مختلف الجنسيات والوظائف من المدير إلى الخفير، فمعيل الأسرة سواء كان الأب أو الأم يمضي سنوات حياته في العمل والادّخار لتوفير حياة كريمة لأبنائه وأسرته، إلا أنه محروم من قضاء الوقت المثمر معهم، فلا يحضر لحظة (ولادة) أطفاله أو مراحل نموهم وتعلّمهم، ويفتقد يوم دخولهم الجامعة وتخرجهم منها، وحتى حضور جنائز أقاربه.

أمر مؤسف أن يتحول رب الأسرة سواء الأب أو الأم إلى جهاز صرّاف آلي، مهمته الوحيدة هي توفير النقود لهم من دون أن يشاركهم أفراحهم وأتراحهم.

فلا يسعنا أن نطلق أحكاما على المغتربين لأنهم أدرى بتحدياتهم، فلقمة العيش أحيانا تكون مرّة ولم يلجؤوا إلى هذا الخيار إلا من عسرة، ولكن يمكننا تفهّم مشاعرهم وتقبّل تنوعهم وتقدير ظروفهم، ونحمد الله على كل نعمة أنعمها علينا.  

بقلم : م.صبا العصفور   

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *