ربِّ إن لك في قلبي بيتًا

رمتْ من فوق جناحيها رهان الحرير، وطارت بعيدًا تنشد النور في دعوة الطور. لم يُعشِ عينيها عرشها البرّاق، حين رأت الحق بازغًا من سَيناء. إنه العنفوان حين يتجسّد في إنسان، واستقلال الإرادة رغم المصاعب والمخاطر، وحرية النفس والعقل في أدق معانيها. إذ من السهل أن تثور المعاصم عند القيود، والأعناق قبالة مشانقها، ولكن حين تكون القيود أساور وجواهر، والمشانق عقود ولآلئ، فقط النفس العملاقة هي من تبصر الحق من وراء تلك الحجب والقضبان المخملية.

تلك هي حقيقة آسيا بنت مزاحم، المرأة التي تزوجت بسلطانان أوتيَ المال والقدرة، وعاشت في نعيم القصور سيدة مبجّلة، وذاقت أشهى ما بالحياة من لذائذ ومباهج، إلاّ أنها لم تفقد مع هذا كله قدرتها على التقييم، وبصيرتها التي تفرّق بين الحق والباطل والإنصاف والظلم. فقد ملكت ذاتها واستقلت بإرادتها، واصطفت خياراتها دون التأثّر بالمحيط ومغرياته. استجابت لنداء فطرتها وآمنت بالكليم “ع”، ورفضت ظلم الفرعون وجابهت أنانيته وعلوّه، ولو لم يمسسها بشكلٍ خاص جحيم ظلمه وظلام أنانيته، إلاّ أنه كان يكفيها لتتخذه خصمًا أنه تسلط على رقاب العباد وأساء وأسرف في تعديه وطغيانه، بالرغم أنه في البدء كان لها عاشقًا وملبيًا لما يرضيها، كتلبيته لطلبها إبقاء طفل اليمّ “موسى”، وكانت هي أميرة في حياة رغيدة، لكنها وكونها تحررت من سجن أناها لرحاب إنسانيتها، نظرت للشرّ والظلم كواقع ينبغي أن يجابه ويحارب، بغضّ النظر عن ذاتها ومكانتها وعلاقاتها وما إذا كانت في دائرة تلقّي سياطه أم لا.

إن امتلاك هذه الشخصية العظيمة – آسيا “ع” – لزمام المبادرة في تشييد قناعاتها النقية، والعيش وفق مبدأ ومسار خاص وخيّر اجتبته لنفسها، دون أن يتلوث بطغيان وظلم زوجها الفرعون، وكذلك مع ما يحيطها من خطورة بطشه بها حين الاختلاف معه وثباتها على قيمها رغم ذلك قد ساهم هذا كله في جعلها شخصية ثرية وملهمة وذات معاني غير اعتيادية. إذ لم تكن حياتها أبدًا رد فعل على ظرف أو حال، أو استجابة لواقع مفروض، بل كانت ذات كيان مكتمل بالمبادئ، ولم تكن صنيعة محيطها وبيئتها أبدًا، بل هو قرارها الداخلي ومسارها الذي ارتضته لنفسها بكل وجودها، وفرضته على ذاتها كمنهاج حياة، ليثمر أخيرًا تتويجها كواحدة من سيدات نساء العالمين. وهذا كله بالطبع يضاف لدورها الكبير في حياة نبي الله موسى “ع” – وهذا مبحث كبير قد يفرد له مقال مستقل-.

إن القرآن الكريم حفظ لهذا الصرح العظيم “آسيا”، مشهد استثنائي كان خاتمة لحياتها الأرضية، اجتمعت فيه أروع المشاعر الإنسانية الممزوجة بأعمق مستويات الإيمان واليقين، وذلك حين دعت “ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ”، وقد كان هذا صدىً لما قالته وفعلته وعاشته طوال حياتها ، وهو بلسان الروح: ربِّ إن لك في قلبي بيتًا. فبين القولين يتلخص عنفوانها الفريد، وما بين حروفه تتجلى تحدياتها التي واجهتها بثبات، وعقباتها المستمرة التي تجاوزتها تباعًا، وهو نتيجة نهائية لخياراتها الثابتة في نوعية الحياة التي أرادتها، والمستوى الإنساني الذي بلغته.

ومنذ ذلك اليوم بدأت قافلة آسيا في المسير، تعبر الأزمان باحثة عن كل من كان في قلبه بيتًا لله، ليشيد به الحضارة ويصلح ما فسد من الإنسان ويضحي في سبيل أن تسود القيم..

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

naeimaar@yahoo.com

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *