ملحمة على ضفاف اليمّ

في كثير من الأحيان، يكون الحب والشجاعة وجهين لعملة واحدة، والعشق والبسالة خارطة لذات الطريق، والحميمية والجرأة عنوان لموقف مستقل. إنه تلاقي المعاني التي تصنعها القلوب الشجاعة حين تحب، والأنفس القوية عندما تستبسل في سبيل محبوبها، لتصنع في طريقها ملحمة للحب والشجاعة تبقى أبد الدهر. إن هذا هو ما كانت عليه أمّ نبي الله موسى حين ألقت ببضعتها البحر، وسلّمت بأمرٍ من الرحمن مقاليد طفلها لسلطان اليمّ، وأخذت ترقب ببسالة هبة الله إليها كيف تأخذه الأمواج، ليغيب بعيداً عن بصرها وحجرها وحليبها. وثبتت بإباء في أدق وأخطر لحظة في زمنها وظرفها، كفارس مغوار يحامي عن أهمّ معاقلة.

إن خلاص الكليم من خطر الذبح كان نتاج امرأة بإرادة فولاذية، تحكّمت بانفعالاتها وعواطفها، وسيّدت عقلها ووعيها على أقوى وأعمق إحساس وشعور لديها وهي عاطفة الأمومة. وبقيت في تلك المسافة الفاصلة بين عملها وحصول نتيجته على ثغر الصبر والتحمل كجبل لا يهزّه شيء، أي ثبتت في تلك المسافة الحرجة ما بين إلقاءه في اليمّ حتى عودته إليها، رغم قسوة تلك المسافة وشدّتها على أي إنسان حين يقع في ظرف مشابه، بحيث تكون سلامة عزيزه المحبوب على المحكّ، وخَلاَصه ووصاله هي النتيجة المبتغاة. فكيف بالأم التي منحها الله مشاعر فياضة تجاه وليدها؟.

وبقدر ذلك الإحساس الغزير والعاطفة العميقة لدى أم موسى، كانت تمتلك الصبر والتحمل والبأس والجلَد والذي عبرت عنه الآية الكريمة ب”أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا. كما كانت تلك الصفات فيها بعيدة كل البعد عن كونها ملكات مجردة وفي حالٍ من السكون والخمول، بل تميزت وتكللت بالعمل الدؤوب والتفكير المستغرق والتصرف المدروس، وحسن التدبير الذي يجلل كل حركة تقوم بها ومنذ البداية “ابتداءً بإخفاء حملها ووضعها وإرضاع جنينها بسرية، مرورا بإلقاءه في اليمّ وتتبّع أثره، وانتهاءً باقتناص فرصة الحاجة إلى مرضعة، لتكون هي المختارة ويعود إليها أخيراً”، حيث لم تتخلَ عن ملكة وزن الأمور ودراستها من كل جوانبها في كل مرحلة تمر بها، واستعراض الخيارات الممكنة ودراسة النتائج المتوقعة – رغم المشاعر والإنفعالات-.

فحين ألقت رضيعها في اليمّ لم تكن بمنأى عن التفكير في المسارات المحتملة التي يمكن أن يأخذه الموج إليها، وتخيّل واستعراض السيناريوهات المحتملة لكل مسار منها، وهو تفكير طبيعي لأي إنسان يقدم على خطوة بهذا الحجم سيما إذا كان يمتلك حس كبير من المسؤولية، وما طلبها لأخته الكبرى بقُصِّيهِأي تتبّعي أين سيلقيه اليمّ، إلاّ لتكون على إحاطة كاملة وأكيدة بالمكان الذي سيرسو فيه والحال الذي سيؤول إليه، وحتى اختيارها لها لم يكن لمجرد أنها ابنتها وموضع ثقتها، بل لكونها تستطيع الولوج إلى أماكن كان يصعب عليها ولوجها، فكما ذكر التاريخ فقد كانت أخته تعمل في قصر فرعون.

إن أمّ موسى لم تنتظر أن يرجع لها وليدها على طبقٍ من ذهب، بل كانت تعلم أن هذا لن يحدث أبداً بمدد وعون من الرحمن من دون سعيها وفعلها وعملها، بل كانت تدرك تمام الإدراك أن العون والمدد الإلهي والتوفيق من السماء لا بد له من مقدمة تصنعها بجهدها وسعي تقوم به بكد وإخلاص وخطوات تمهيدية تسلكها لكي تستحق هذا العون والمدد، فلا يمكن أن تظفر بمطلبها ولو كان حقّاً لها دون إدارة سليمة وحسن تدبير، وتحكّم كامل في المشاعر والأفعال والتفاعلات.

إن القبسات القصيرة والمحدودة التي ذكرها القرآن الكريم عن هذه المرأة العظيمة، رغم قلّتها إلاّ أنها زاخرة بالمعاني النفسية العالية والقيم الوجدانية الإستثنائية، وغنية بشكل كبير – بلغة اليوم- بفنون الإدارة والتدبير والتخطيط، وهي تحمل في طياتها علامات ودلائل مفتاحية، تبرز لنا سمات الشخصية المثلى للإنسان الأنموذج في تعامله مع شتى قضاياه وصعوباته وتحدياته.

وفي كل ما سبق، كانت هذه المرأة بحقٍ خارطةً لطّريق، تدلّ كل البشر قاطبةً إلى معرفة حقيقة غاية في الأهمية، وهي أن التحكم في الذات والمشاعر المقرونة بالعمل المدروس وحسن التدبير، مفتاح وشرط ضرورين للدخول إلى عالم الظفر والنجاح وتحقيق كل مايراد ويُتمنى.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

naeimaar@yahoo.com

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *