واهبة الحياة

الأم هي الحياة ونبع الرحمة، دائما ما نردد هذه المقولة فهل نعنيها حقا؟! وأين هي على أرض الواقع؟
نعم الأم هي جوهر الحياة وأسها وأساسها، جعل الله لها دورا جوهريا لتهب الحياة، وجعل من رحمها مصنعا لتخليق الإنسان وهيأه ليكون حاضنة لينشأ فردا صالحا في مجتمعه، فتحمله “وهنا على وهن” حتى يبلغ مداه ويصبح مستعدا لاستقبال النور فيخرج لتتلقفه اليد الحنون وتضمه إلى صدرها وتغذيه من ثديها وتربيه في حضنها، فينمو ويكبر ويشتد عوده، فالأم هي الأرض التي تحتضن البذرة وتغديها من روحها ، تمنحها الدفء حتى تنبعث نحو النور ويشتد عودها أخضرا ، ومهما كبرت الشجرة يبقى ارتباطها بالأرض واهبة الحياة ، هكذا هي الأم ، فعمر ابنها مجرد ارقام تزداد قيمتها مهما ازدادت.


ولو تساءلنا ما الذي يدفع المرأة للقيام بهذا الدور العظيم وتقدم التضحيات بل أنها تقدم حياتها هبة لوليدها؟ لإنها هي نفسها هبة الخالق لتهب الحياة. ومما قيل فيها: “إنَّ هذه الأم التي يترعرع الطفل في أحضانها، تتحمَّل أعظم مسؤولية، لديها أشرف عمل، ألا وهو رعاية الطفل. إنَّ تنشئة الطفل وتقديم إنسان للمجتمع هو من أشرف الأعمال في العالم، إنَّه الهدف الذي بعث الله تبارك وتعالى الأنبياء من أجله على مر التاريخ، من آدم إلى الخاتم، فالأنبياءُ بعثوا لتربية الإنسان”
أجل خلق الله المرأة ووهبها رحمة وعطفا لتجود بها على جنينها فتتحمل آلام الحمل وآلام المخاض ثم ما تلبث أن تتحمل مسؤوليتها الكبرى في التربية والتنشئة والرعاية والتهذيب وهذه أمور خصت بها المرأة واهبة الحياة لا يستطيع الرجل لعب هذا الدور كما تلعبه هي.


فالصفات والهبات العظيمة التي خصت بها المرأة والقدرات العقلية التي تظهر بشكل أقوى لديها وذلك لأنها تؤمن بأحاسيسها وتهتم بتفسيرها، ولأنها مرتبطة عاطفيا بأبنائها فهم من صنعوا في رحمها وتغذوا من رحمها وتشربوا من قيمها ونالوا من تربيتها.


ولها في طيات التاريخ أعظم الأدوار بدءا بحواء التي انحدرت منها الإنسانية، وعروجا بهاجر التي ضربت مثلا عظيما للنساء المكافحات لمشقة الحياة وعقباتها في بيئة لا حياة فيها ، لتكون هي باعثة الحياة بسعيها بين الصفا والمروى بجهدها الذاتي وحيدة، أحاطت وليدها إسماعيل في واد غير ذي زرع وراحت تبحث له عن أسباب الحياة لتكون هذه البقعة هي من تهفو لها القلوب، كما تطالعنا بعض الدراسات الحديثة حيث وجد الباحثون أن النساء، في الظروف الصعبة، صمدن في محنهن فترة أطول بكثير، وفي الغالب تفوقن على الرجال على مر السنين، كما حدث في “مجاعة البطاطا الإيرلندية”، التي دمرت البلاد من عام 1845 إلى عام 1849، حيث كان متوسط عمر الرجال والنساء وقتها 38 سنة. ولكن مع تفاقم الأزمة انخفض متوسط العمر المتوقع للرجال إلى 18.17، بينما انخفض للنساء إلى 22.4 فقط، كذلك عمرت النساء فترة أطول أثناء تفشي مرض الحصبة الآيسلندية مرتين في القرن التاسع عشر، حيث كان عمرهن أطول من الرجال بسنتين.
وكذلك مريم العذراء التي واجهت قومها في قوة وصبر وتجلد وتحدي لما ألفه قومها لترعى ابنها “عيسى” وتضل إلى جانبه حتى بلغ مبلغ الرجال بل شاركته همه وحملت معه رسالته.


كما يكشف لنا التاريخ أيضا قصة هي من أروع القصص في التضحية و العطاء هي أم موسى حيث ألقت رضيعها في يم المجهول طلبا لسلامته من الموت و ليحفظه الرب لها من يد البطش، ولكنها ظلت تترقبه وتتفقد أحواله حتى رده الله لها لتغذيه من ثديها كل معاني المحبة و العطاء و الشجاعة والإيمان، ولنا في آمنة بنت وهب حكاية أخرى مع الأم التي احتضنت أشرف خلق الله ورعته حق رعايته فكانت الأم والأب ولم يشعر نبينا عليه السلام بالفقد إلا بعد وفاتها ويكفيها فخرا أنها احتضنت في أحشائها وبين ذراعيها أعظم مخلوق أشرق على البشرية ومن ثم سلمت الأمانة لجده عبد المطلب.


ويطل علينا التاريخ الحديث بقصة أخرى لأمهات نذرن أنفسهن لأبنائهن وهي أم العالم توماس أديسون التي آمنت به وبقدراته بالرغم من رأي أساتذته فيه وبأنه لا يصلح ليكون تلميذا في مدرستهم ولكنها آمنت به ورأت فيه الأمل والمستقبل ليكون عالما منح الشرية بأعظم الاكتشافات التي أسهمت في نطور الحياة.
إذن إنها الأم التي وهبت حياتها وجل وقتها وما تملك من أجل صناعة العالم من خلال أبنائها بل لم تقتصر على أبنائها فحسب بل هي رسالة الحياة تحتضن وباستعداداتها الفطرية كل العالم، ولم يزل ولا زال التاريخ يسطر لنا حكايات وبشكل يومي لأمهاتنا اللاتي آمن بأبنائهن وبمن حولهن وجعلت من ذلك مشروعهن لحياة أفضل فـ”الأم التي تهز المهد بيمينها تهز العالم بيسارها”

أ.وجيهة عباس بوصبيعة

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *