ورقة الدكتور عودة الجيوسي بمناسبة يوم السلام العالمي
تمهيد
لعل من أهم سمات رسالة الإسلام بأنها رسالة جاءت لتحقيق مفهوم السلام الإنساني على صعيد النفس والمجتمع والبشرية.فنج د لفظ “السلم” والإسلام والسلام مشتقة من نفس الأصل وجاء الخطاب القرآني”أدخلوا في السلم كافة” وكانت تحية الإسلام هي “السلام عليكم” واسم “السلام” من أسماء لله الحسنى والجنة سميت بدار السلام وتحية المؤمنين في الجنة”سلام” ولكن حالة التردي والضعف والغثائية وانتقاء حالة الخيرية للأمة الوسط أدت إلى حالة القطيعة بين روح الإسلام المستنير الرحب الذي جاء رحمة للعالمين وكي يتمم مكارم الأخلاق.
فيما يلي بعض المحاور والمرتكزات لتأصيل ثقافة السلام المجتمعي ضمن الفكر الإسلامي.
مرتكزات السلام المجتمعي من منظور إسلامي:
1-الأخوة الإنسانية:
يؤكد المنهج الإسلامي على غاية الخلق المتمثلة في التعارف وبناء المعرفة “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا” وهذا المعنى يؤكده كلام الرسول عليه السلام”لا فرق بين عربي على أعجمي إلا بالتقوى”وكذلك الحديث الشريف”لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”وكذلك “والله لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقة”.ويبدأ السلام في النفس البشرية حتى تصل إلى النفس المطمئنة من خلال التزكية “قد أفلح من زكاها” وهي الركن الأساسي للسلام الإنساني.
2-مقاصد الشريعة وحرمة المسلم:
حرص الإسـلام على حماية وحفظ حقوق المسلم وأهل الكتاب وأهل الذمة ضمن المجتمع الإسلامي حسب ما أكده الرسول الكريم”كل المسلم على المسلم حرام ، دمه وماله وعرضه” و”المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”.
وجاءت مقاصد الشريعة لحفظ الدين والعقل والمال والنسل وهذا هو ضمان لبناء السلام المجتمعي في مجتمع التكافل والتراحم والإحسان.
3- تحقيق مجتمع العدل والإحسان:
إن السلام والأمن هو ثمرة للإيمان وهذا جلي في امتثال أوامر اله “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي” .وهذا الأمر يوضح المرتكزات الأساسية لتحقيق السلام من خلال نشر العدل عبر الحكم الرشيد ومؤسسة القانون ودولة المؤسسات وتحقيق مفهوم “الحسبة” .ومفهوم الإحسان هو تمثل الجمال الداخلي وبناء التغيير والوازع الخلقي عبر إدراك أسماء الله الحسنى والمراقبة والخشية والتقوى.والتواصل للأقارب وصلة الرحم هو أساس لبناء مجتمع الرحمة والتكافل والتراحم.
وأخيرا يمكن فهم الحد من الفساد بأشكاله المختلفة من فحشاء ومنكر وبغي يمثل المعيار الخلقي والعقد الاجتماعي لتحقيق السلام المجتمعي.
4- فقه تعدد الصواب:
إن احتكار الصواب وإقصاء الآخر في ضوء اجتهاده تكرس حالة اللاسلم في المجتمع.لكن الإسلام عزز فكر الاجتهاد وتحقيق المصلحة من غير إفراط ولا تفريط وأكد على فقه الصواب في مجال المعاملات والعلاقات ضمن فضاء رحب لضمان السلم والسلام المجتمعي.
ولعل حكمة الخالق تتمثل في ألوان الطيف المختلفة التي في جوهرها تشكل اللون الأبيض إذا تجمعت عبر
منشور (prism)
وهذا المنشور هو المؤسسات ودولة القانون والحكم الرشيد كلها تجمع اختلاف الناس في المجتمع في رؤية واحدة.
5-فقه النصيحة والتناصح:
الدين النصيحة هي سمة رئيسة في المجتمع الإسلامي الحي ولكن حالة الاستبداد والظلم وكبت الحريات تؤدي إلى النفاق الاجتماعي وظهور علماء السلطان وهذا يتفاقم في حالة اللاسلم المجتمعي.بينما الوضع الطبيعي هو تعزيز ثقافة “لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها”
وكذلك ثقافة “صديقك من صدقك لا من صدًقك”وهذا لا يكون إلا بتعزيز دور وفاعلية المجتمع المدني كمؤسسة للتناصح والنصح وبيان مواطن الخلل في المجتمع.
6- التصالح مع الماضي:
إن الكثير من معوقات السلم المجتمعي لها جذور تاريخية ولا نريد أن نكون أسرى الماضي”تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون” .
ومن أركان السلم المجتمعي أن تصالح مع الماضي ونفهمه ضمن سياقه التاريخي ولا نغرق في العيش في إشكاليات الماضي الجدلية بل ننظر إلى المستقبل ونبحث عن الكلمة السواء لبناء مشروع النهضة ونتحمل عبء الأمانة والرسالة وتبليغ الحق للناس كافة كأصحاب مشروع حضاري إنساني كوني.
7- فهم للأمة الوسط ومعنى الخيرية:
إن وعي المجتمع المسلم لدوره الإنساني كصاحب رسالة هي رحمة للعالمين وإدراك الإنسان لدوره كمشاهد ومستخلف على هذه الأرض وحامل للأمانة ولإحقاق الحق وعمارة الأرض من خلال تمثل الأمة الوسط التي تشهد على الناس هو جوهر الخيرية والشهادة على الناس.
الأمة الوسط التي تفهم فقه الواقع وفقه الأولويات وفقه الجوار مع الآخر واحترام التعدد”ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات”وهي التي تعمل على الحراك الإيجابي لتحقيق السلم على الصعيد الفردي (عالم النفس)وعلى صعيد الأسرة والخدمات والدولة والمجتمع المدني والعلم أسره.
8- التواصل مع الطبيعة والكون:
إن تعزيز وبناء وإثراء حالة السلم الداخلي على صعيد النفس والعقل والروح هو الأساس الأول لبناء السلم الاجتماعي ،والطبيعة هي كتاب الله المنظور وتأمل آيات الله في الطبيعة هو جزء من التعلم الفعال المستمر عبر تأمل تعاقب الليل والنهار وحركة الرياح وتنوع الكائنات الحية وتكامل الأنواع الحية وحركتها ودورات الحياة والطاقة.
إن التعلم من الطبيعة يثري حالة السلام الداخلي لإدراك المؤمن لحالة التسبيح والسجود للكون”وإن من شيء إلا يسبح بحمده “و”النجم والشجر يسجدان” وهذا هو الذكاء المستمد من الطبيعة يثري الفهم والتعلم مما حولنا من آيات كونية.
إن بناء جيل المستقبل يعتمد على فهم المحاور التالية:
المحور الأول:العقيدة والفكر:
إن مناهج التعليم والإعلام ووسائل الاتصال الحديثة لا تساهم في بناء وفكر وعقل مستنير لذا يعاني الشباب من الفراغ الفكري وطغيان مناهج الفكر العربي والاستهلاك والمظاهر الغربية.إن حالة السلم والسلام والأمن مرتبطة بالعقيدة والفكر لأن وحدانية الخالق تقتضي بالضرورة الانسجام والأمن الداخلي والتصالح مع الكون والطبيعة والآخر.والفكر الإسلامي يقوم على عمارة الكون ومنع الفساد وإقامة العدل والإحسان وصلة الأرحام وكلها مقومات السلام والأمن.
المحور الثاني:فقه السنن الكونية وفقه الواقع:
شباب اليوم بحاجة إلى فهم القوانين الاجتماعية وسنن الكون والتاريخ وحركة الحضارات البائدة “وتلك الأيام نداولها بين الناس” ومن هذه السنن سنة التدافع بين الخير والشر والحق والباطل وسنن النصر وسنة التداول بين الأمم وفهم عالم الأسباب “وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا” .
وهذا الفهم يولد الاستبشار والأمل بإحياء الأمة الوسط وإعادة الدور الحضاري للأمة.
المحور الثالث:فهم الآخر والكلمة السواء:
إن فقه التنوع والاحتفال بالتنوع سنة مبثوثة في الطبيعة “مختلف ألوانه كذلك” .وشباب اليوم عليهم مسؤولية فهم فكر الآخر حتى يعرف كيف يتواصل معه ويعرض له منهج الإسلام كدواء وعلاج للأزمة الغربية على صعيد المجتمع والاقتصاد والتربية. لأن البشرية خاسرة وبعيدة على السلام لابتعادها عن الإسلام.
المحور الرابع:إدراك الدور الحضاري والأمة الوسط:
إن معيار السلام والأمن يقوم على بناء ثقافة ودولة العدل والإحسان وصلة الأرحام ومنع الفساد في الأرض.
وهذا كله يكون من خلال إدراك لدور الأمة الوسط في إحياء حالة السلام الإنساني
استجابات