لكي لا نقسو..

أقسى من الخوف هو قسوة الخائف، حين يغيب عنه كنّه الخطر وحجمه ووسيلة مواجهته، تراه يتخبط ويرمي في كل اتجاه ويتجاوز حتى على من يريد حمايته، ليظفر أخيرًا بمطلوبه ويؤمن خوفه، مستعينًا بغريزة الفريسة حين تخطأ مرات في سبيل صوابها مرّة، ذلك حال الخائف الجاهل، وهو بخلاف الخائف على بينه ومعرفة، حين يستعين بوعيه ودرايته ليدرأ عنه ما يخاف ويحذر دون أن يتجاوز ويظلم. وكذلك المجتمعات حالها كالأفراد سواءً جهلت خطرها أو وعته.

ومع تعقيد الحياة وصعوبة تبيّن الكثير من مخاطرها، ومع دخول المخاطر المعنوية والمفاهيمية كنوع بارز نعانيه في عصرنا هذا، أصبح البعض أكثر تجاوزًا وربما ظلمًا على من حولهم. ويتجلى هذا أكثر ما يتجلى في مجتمعاتنا العربية والإسلامية مع المرأة، إذ أن خوف الكثيرين على المجتمع ونقاءه وأخلاقه، وهلعهم من أن تموت قيم الشرف والعفّة في أفراده. هذا الخوف المصاحب بعدم الإحاطة الدقيقة بالمهددات الحقيقية لهذه القيم واتساعها وتنوعها، كل هذا دفع المهتمين والمنظّرين في صلاح المجتمع -أو لنقُل بعضهم- لأن يجعلوا المرأة للأسف هي المرمى لكل السهام، بحيث أصبحت هي الشمّاعة التي تُعلّق عليها هزيمة قيم العفّة والشرف، بل وتُجعل هذه القيم أكثر ما ترتبط بها دون الجنس الآخر، وتتحمل هي وحدها انتصارها أو انهيارها.ا.

وانطلاقًا من هذا الخوف “المتخبّط” على المجتمع! وهوس الدفاع عن المرأة بوصفها هي الممثل الرئيسي دون منافس لقيم العفّة والشرف! خُطت مأساة فصولها كثيره في حياة المرأة الشرقية اليوم، وأقلّها حين تصبح هي الجاني والغاوي في المواضع التي تكون فيها مجرد ضحية بريئة لضعاف النفوس وأتباع الغرائز المريضة، وحين تسلب حقوقها في التعليم والعمل والتنقل والتواجد في الميادين المختلفة بدعوى الحفاظ على هذه القيم، وحين تُقيّد كذلك حريتها وقراراتها وخياراتها بذات الدواعي نفسها، والفصول غيرها كثيرة.

لنقف اليوم ونتساءل، ومع التجدد المستمر لهذا البؤس في حياة النساء في مجتمعاتنا الشرقية: هل استجابتنا لخوفنا على هذه القيم استجابةً صحيحة؟ وهل حجم هذا الخوف من الأساس له مسوّغ؟ وهل المرأة هي مصدر الخطر؟ وإن كانت كذلك هل هي  اللاعب الوحيد في هذا المضمار أم يشاركها غيرها من الأفراد والعوامل والمؤثرات؟ والأسئلة غيرها كثير، تتطلب إجابة واعية تنبع من معرفة وإحاطة كلّية، وليست متأثرة بنظرة سطحية تعالج المظاهر دون الولوج لأعماق المشكلة.

إن المشاكل والأزمات في زماننا زمن التعقيد أصعب بطبيعة الحال من تلك التي في الماضي حيث زمن البساطة، سيما إذا كانت تمس القيم والأخلاق وهي أمور غير ملموسة لكنها بالغة التأثير على حياة الأفراد ومستقبل المجتمعات. فموضعة المرأة في المجتمع اليوم وإقرانها الغير موضوعي وحدها بمعاني الشرف، وتحميلها كل المسؤولية لأي خرقٍ أو انتهاك لها، كما في فرض أسلوب وطريقة محافظتها عليها وإن خلت تلك الأخيرة من الإنصاف والعدالة، هو أمر يجافي المنطق كما يجافي الحق والإنصاف.

لا يكمن الحل والإنتصار في معركة القيم في أي مجتمع في تقييد المرأة وسلبها حقوقها وحريتها وتحميلها كامل المسؤولية في هذا الشأن. بل هو في تضافر أعمال وجهود كثيرة للعديد من الجهات مجتمعة، مثل الإعلام وأطباء النفس وعلماء الاجتماع وشيوخ الدين والمعلمين وغيرهم، وعدم إنفراد جهة واحدة في تقرير المسار المناسب للمحافظة على تماسك القيم والأخلاق، وكذلك تحمّل كل أفراد المجتمع رجاله كما نساءه لمهمة التصدي للمحافظة على هذا الركن الأساسي في المجتمع.

آن لنا أن نحيل العلم والمعرفة بالمخاطر والتحديات مكان الخوف في نفوسنا منها، لنحرر المرأة والإنسان من خوفنا هذا، ولنعمل لتصحيح مسار القيم في محيطنا منطلقين من دراية ووعيّ وليس من توجس وهلع يقودنا للتجاوز والظلم لغيرنا، ولنتجنب أخيرًا أن نقسو، فليس أقسى من الإنسان حين يخاف.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية

naeimaar@yahoo.com

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *