الصحة المعنوية مطلبٌ مغفولٌ عنه

لسْتَ بحاجة أن تكون خبيرًا لتدرك أن المعنويات المهترئة قلّما يضمها جسد صلب وصحيّ، والأنفس الضعيفة تتضاءل مكنتها في إدارة جوارح قوية، والقلوب الحزينة منهكة بطبيعتها وغير قادرة على تغذية أعضاء نشِطة وضاحكة. وإن استطاع هذا الجسد الصمود على صحته وسلامته رغم ذلك -ولو جدلاً-، فإن متلبسه الإنسان لن يصل لسعادته وراحته دون تحقيق الشقّ الآخر لصحته، وهي المرتبطة بصحته المعنوية.

في اليوم العالمي من أجل تنمية صحة المرأة، نؤكد على أن صحة المرأة شقّان وجانبان لا واحد، وبالتالي فأي تنمية لصحة جسمها بمعزل عن صحة معنوياتها وأفكارها ومشاعرها لن تُأتي أكلها ولن تحقق السعادة لها ولا لغيرها. ونحن هنا عندما نتكلم عن صحة المعنويات والأفكار والمشاعر المتعلقة بالمرأة، فإنا لا نعني الصحة النفسية بمفهومها المتعارف والشائع وإن كانت تندرج تحتها بالضرورة، بل ما نعنيه حقيقةً أشمل وأوسع من ذلك، وهو يدخل في إطار المفاهيم والقناعات ونظرتها لنفسها ومستوى الرضا الذي تشعر به فيما يخص ذاتها وحياتها، وكذلك من جانب آخر يدخل فيه نظرة المجتمع إليها وتعامله باتجاهها .

إن ما يحويه كيان المرأة من وعيّ ومفاهيم عالية هو ما يحدد صحتها المعنوية، من قبيل مفهوم تقدير الذات، ذلك المعنى الذي إن احتوته وزيّنت به نظرتها لنفسها، ستثمّن كل ما تقوم به وستفخر بأي عمل ومنجز قامت وتقوم به، وبالتالي ستكتسب الثقة والاحترام لنفسها وسينعكس ذلك إنشراحًا في وجدانها وإقبالاً على الحياة وهذا جزء من الصحة المعنوية. وكذلك أن تحمل المرأة في ذاتها وعيًّا راسخًا بدورها الإنساني بأبعاده غير المحدودة، بلا تمييز أو تأطير أو تنميط، وتدرك قيمتها الحقيقية بشكلٍ نقيّ ومتحرر من الوهم والزيف المتعلق بهذا الفهم، أي أن تعي بأنها قطب وشريك أساسي في كل الحراك الحضاري والتطور الإنساني لا تابع هامشي وعضو ثانوي في مسيرة الحياة، ومع كل تلك المفاهيم حتمًا سترفل المرأة بأثواب العافية النفسية والصحة المعنوية.

وكذلك من زاوية أخرى، إن آمنت المرأة بأن سعادتها وراحتها مرهونة بوقف معاناتها وشقائها الذي طالما عانته لأحقاب طويلة، والذي يُشكّل أكبر آفة تضرب معنوياتها وأعتى مرض ينخر في نفسيتها، وهي الوصاية القسرية والظالمة عليها، القائمة على أساس أنها ناقص وقاصر ولا تستطيع إلاّ أن تكون تابعًا مطيعًا لغيرها، والتي قامت للأسف اليوم القوانين والأعراف والعادات التي تقاسي منها المرأة على أساس هذا الفهم الوصائي.

إن السلامة والصحة الحقيقية للمرأة هي في صحة كل المنظومة التي تشكل كيانها  الإنساني، حيث جسدها وعقلها ومشاعرها ومعنوياتها..إلخ، وحتى في نظرة المجتمع وتعامله باتجاهها والذي يضرب بشكل مباشر صحتها المعنوية. وبالتالي كل الاهتمام والرعاية لا بدَّ أن ينصبا حول تلك الجوانب مجتمعة، لتظفر المرأة بحياة صحية سليمة تنعكس على أدائها وعطائها وكذلك على أبنائها وكل من حولها.

إن تنمية صحة المرأة وفق هذه الأبعاد هي عملية ليست هَيِنّة، وتحتاج لتظافر جهود عديدة من مختلف الأطراف ابتداءً من المهتمين والمثقفين ومرورًا بكل الكفاءات العلمية والمهنية وكل معني بأمر النهوض بمجتمعه وأفراده، وانتهاءً بالكيانات ذات الاهتمام بالمرأة وشئونها، لأن الموضوع هنا يتعدى العلاج والوقاية من سرطان الثدي وعنق الرحم وهشاشة العظام..إلخ إلى وقاية وعلاج سرطان الأفكار وهشاشة المعنويات وأمراض الانتقاص والامتهان.

في اليوم العالمي من أجل تنمية صحة المرأة نتذكر نماذج مضيئة من تاريخنا لنساء عظيمات، كانت الصحة المعنوية والسلامة الفكرية متجلية بوضوح في مسيرتهن وعطائهن، كبلقيس ملكة سبأ ومريم أم المسيح وغيرهن الكثيرات. هؤلاء النساء لا نعلم مقدار الصحة الجسدية التي امتلكنّها ولا نعلم يقينًا إن كانت أعضاؤهن مريضة أم سليمة. لكنّا نعلم حتمًا المستوى الكبير من الصحة المعنوية التي اتسمنَّ بها والسلامة الفكرية التي تمتعنَّ بها، والتي من خلالها غيّرن حركة التاريخ وأضفنا الكثير للحراك الإنساني والحضاري. ونؤكد عبرهنَّ أن الصحة المعنوية لا تقلّ أهمية عن الصحة الجسدية إن لم تتفوق عليها في ضرورتها، وهي قادرة بلا شك على جعل عالمنا مكانًا أفضل وإنساننا مخلوقًا أجمل وأكمل.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

naeimaar@yahoo.com

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *