حين لا يبقى شيئ سوى الإنسان

قبلها كانت مقّفرة وموحشة وحزينة، وبعدها صارت عامرة ومؤنسة وضاحكة. فقد دشّنت هاجر مكة سيدةً للأوطان، وافتتحت في أرضٍ باركها الله عهدًا للعمران. ليكتب هنا سؤال على جبين الزمان: من يصنع الحضارة؟! هل المكان أم الإنسان؟! هل الموارد أم المآثر؟! هل الظرف أم القرار؟!.

ما ميّز الله أم القرى يومًا بوفرة في مواردها، ولكنه حباها وفرة في إنسانها، في كيان امرأة سعت بين وديانها، وذاتٍ فيها بلغت علاها لمّا واجهت ظرفها القاسي بقرار، أن تبقى وتعارك روح اليأس داخلها، وتعانق أمل البقاء كطوق نجاة. لتنتصر بعدها هاجر رغم فقر المكان وجدب الأرض بروحٍ خصبةٍ حملتها. ليجيب الخلاّق عبرها سؤال الزمان، وفي ذكراها الجليلة في كل عام: أن الحضارة يا بني الإنسان ليست بالموارد بل هي بالمآثر، ولا هي بالمكان بل هي بالإنسان، ولا هي بالظرف بل هي بالقرار.

وهنا ندرك مأساة الإنسان، حين تناسى أن الغنى والوفرة وسهولة العيش – رغم أهمية هذه العوامل-، لا تشكل شروط حضارة ولا ضمانة بقاء واستقرار وسعادة. بل هو الإستثمار في الإنسان أولاً وفي ذاته الخلاّقة المتماسكة، وفي تثبيت دعائم قيمه وأصالته كإنسان وقبل أي شيءٍ آخر. ومن ثم يأتي محيطه المادي ووفرة أسباب عيشه ورغده ورفاهيته.

ولكم رأينا ساحات للعيش غنّاء، بظروف معيشية أقل ما يقال عنها أنها مرفهة ورغيدة، حتى عنونها الإنسان أنها هي الحضارة والعمران والمدنية والبنيان، ولكن كم هو سهل رأينا تداعيها، وكم هو يسير شهدنا تلاشيها، لأنها انشغلت بعمارة البنيان عن عمارة الإنسان فضيّعت قيمه ومآثره، وتنازلت عن رشاده واتزانه. فاندثرت حضارات على ضوء هذا، لأن الوفرة والرغد دون قيم ورشاد حتمًا ستنقاد نحو الطغيان بشتى تجلياته، ومن الطغيان يبدأ الانهيار والاندثار وتلاشي حتى الآثار.

لنعود أخيرًا هنا إلى الحقيقة الأزلية، وحين لا يبقى شيئ سوى الإنسان. لنكتشف كيف لأنفس لم تصاغ على التماسك والصبر، وكيف لأرواح لم تتربَ على البناء والتعمير حتى من دون مورد أو معين، ولذوات لم تتعلّم أن لا تفقد إنسانيتها واتزانها وإيمانها بالحياة والجمال مهما قسى الظرف وتعنّت الزمان. كيف لهذا الإنسان أن يشيّد حضارة ويضمن استمرارها!!، كيف لذاته أن تكون طوق نجاة لنفسه فضلاً عن غيره ولمسيرة الحياة من حوله!!….

وهنا.. ووسط هذا التيه.

تبرز هاجر من عمق الزمان كقبس يبدد الظلمة، ونموذج إنساني أصيل وفريد رسّخه العليم ليبقى في الذاكرة البشرية، معلنًا بأنك يا إنسان لا بد أن تحوي ذاتك بذور بقائها واستمرارها، وأن يملك كيانك إرادة وقوة وتماسك وتحمل أقسى ظرف وأشقى حال، ولأن تستثمر في قيمك بقدر استثمارك في رغدك ورفاهيتك. فإن ما سيتبقى أخيرًا إن ضاع كل شيئ –لأيّ سببٍ كان- هو ذاتك المتماسكة المملوءة بالأمل والرغبة في الحياة والاستمرار، وكذلك قيمك وإنسانيتك التي تضمن لك أن لا تصبح وحشًا يدمّر كل شيئ إذا جاع أو توجّس خطرًا.

كلمة أخيرة..

كل أرض ووطن.. وكل مكان وعمران.. وكل إنسان وجماعة. هو عرضة للفقر والجدب وخطر الكوارث والمآسي وأي ظرف عصيب آخر قد يزلزل كيان الإنسان، ومهما اعتقدت البشرية أن هذا هو بعيد، إلاّ أن التاريخ وتجربة الزمان الطويلة، تشير أن لا بعيد عن هذا الذي يخشاه الإنسان. فهل سيتحقق هنا نموذج هاجر في إرادة بقائها واستمرارها مع حفاظها على تماسكها واتزانها. أم ستتحول الإنسانية إلى شيئٍ آخر، وللأسف قد رأينا فداحة ما يمكن حدوثه إذا تناسى الإنسان لوهلة هنا أنه إنسان!، فلنتخذ خيارنا اليوم ولنجعل من هاجر مدرسة نرتادها ونتعلم منها في هذ الشأن، قبل أن يأتي يوم نفقد فيه القدرة على الإختيار الاختيار !!.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

naeimaar@yahoo.com

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *