طفلة بريدة.. مُخرَج بائس لإرث مشوّه
كنت أُقلّ إبنتي ذات الإثنا عشر ربيعاً لمدرستها حين سمعت لأول مرة في الراديو قضية طفلة بريدة التي تناقلتها وسائل الإعلام في الأيام الماضية، تلك الفتاة السعودية الصغيرة التي زوجها والدها برجل ثمانيني وهي لم تكمل بعد الثالثة عشر، توقفت لبرهه عن التفكير في أي شيئ وأخذت أنظر لابنتي الجالسة خلفي في المرآة، كانت تأكل شطيرتها وتتصفح كتابها المدرسي. قلت في سرّي ياللهول كيف يحدث هذا لطفلة!
وأنا أتابع مجريات هذه القضية عبر نوافذ الإعلام المختلفة، كان هناك سؤال مُلحّ يطرح نفسه في تفكيري وهو من المذنب في هذه القضية؟ أهو الأبّ الذي باع ابنته لقاء بضعة آلاف من الدنانير؟ أم الأمّ التي تخلت عن إبنتها وتنازلت عن قضية تطليقها بعد رفعها؟ ولا يعلم إلاّ الله حجم الضغوط والتهديدات التي تعرّضت لها لتفعل ذلك وهذا نقرأه ما بين سطور تفاصيل الخبر، أم هذا العجوز المهووس الذي تزوج بها؟ هل المسئول هو القاضي الذي أبرم عقد الزواج أم نظام القضاء الشرعي كله؟ في حقيقة الأمر لم أشعر أن أياً من تلك الإجابات كان مقنعاً لي، فكل هؤلاء خريجو ثقافة مشوهه تُبيح هكذا أفعال وقد سولت لهم أنفسهم ومصالحهم. .
إن المسئول الأول هو ما ورثه هؤلاء من ثقافة خاطئة إضافة إلى الظروف الاجتماعية السيئة التي تضطر الآباء أحياناً إلى التضحية بفلذات أكبادهم، وخوف الأمّهات من أن يقع عليهن المزيد من الظلم إن هنّ واصلن في الدفاع عن حقوقهن وحقوق أبنائهن، هي منظومة شائكة ومعقّدة لابد من حلحلة عُقدِها لإبطال أثرها.
قالوا الإسلام وشريعة محمد وفعله أباح نكاح الصغيرات، كيف ذلك!.. فلم يرفع الإسلام شر الوأد تحت التراب لتوأد الأنثى بغيره، وشريعة حقوق الطفل والمرأة والرجل وكل إنسان، شريعة الحب والقيم لا يمكن أن تغتال الطفولة وتُشرّع لممارسات شاذة، وقالوا عن أشرف الخلق رسول الله صلى الله عليه وآله أنه دخل بعائشة وهي بنت تسع سنوات، وهو لم يفعل – وحاشاه – إلاّ بعد أن تجاوزت الخامسة عشر بتأكيد العديد من المحققين المنصفين الذين أساءهم اتهام الرسول بأنه تزوج طفلة.
واقع معوجّ هذا الذي نعيشه، والأدهى أن توصف ممارساته بالشرعية وبكونها حلال محمد (ص)، فالأزمة اليوم ليست أزمة بنات صغيرات تم تزويجهنّ عنوة، بل الأزمة أزمة مجتمع رضى وسهّل أن يحدث هذا ثم تغاضى وستر بطرق مختلفة، فأن يقدم شيخ ظاعن في السن بالزواج من بنت هي أصغر من أحفاده بل ويستنكر من الهجمة عليه ويدّعي أنه لم يفعل ما يشين! بل ويفاخر بأن لديه ثلاث زوجات أخريات في مثل سنها! وأن يقول القاضي أنه ليس هناك نص شرعي يحرم هكذا زواج! وأن يعلن الأب أن إبنته طمثت لذا هي مؤهلة للزواج!!
هذه كارثة ثقافية إن لم تعالجها مجتمعاتنا فنحن على شفا جرفٍ هاو، تلك الكارثة أنتجت الآلاف من المآسي الإنسانية تحدث كل يوم في بلداننا العربية والإسلامية، وما ظهر منها إلاّ نتوء صغير كقمة جبل الجليد، فزواج الصغيرات منتشر وهو غير معلن في كثير من الأحيان وتحكمه أعراف قبلية وعادات قديمة متوارثة، وما قضية طفلة بريدة إلاّ مثال واحد عن آلاف غيرها.
إن هؤلاء الصغيرات مكانهن مقاعد الدراسة وساحات اللعب الطفولي وليس الزواج وتربية الأطفال وهموم البيت، فالزواج ليس قدرة بدنية على المعاشرة والإنجاب – وحتى هذه القدرة هي محل شكّ- بل الزواج أكثر من ذلك بكثير، فهو تحمل مسئولية وحسن إدارة وقبل ذلك قدرة وأهلية كاملة في عملية إختيار الزوج ونوع الحياة، فلا يعتد بأهلية القاصر في شتى المعاملات والعقود بنص القانون فكيف يعتد بها في عقود الزواج! وهؤلاء الآباء هل ملكوا بناتهم واستبعدوهنّ ليتصرفوا بمصيرهنّ هكذا؟ أم هم في الأساس مؤتمنون من الله والمجتمع ليرعوهنّ ويحسنون تربيتهنّ ليخرجوهنّ نساءاً صالحات يبنين أوطانهنّ، وهؤلاء الأزواج الذين آثروا الطفلات على الراشدات وتزوجوا بمن يصغرونهم بأجيال عديدة، أهؤلاء أفراد يأمن منهم المجتمع؟ وهو يعلم بميولهم الشاذة تلك، حتى أنه في بعض الدول الغربية هناك مصحات متخصصة لتعالج من لديه ميول لمعاشرة الأطفال أو أن يكون مكانهم السجن.
وأخيراً نقول إن القضاء الشرعي في دولنا بحاجة الى إعادة نظر وسنّ قوانين لتحديد حد أدنى لسن الزواج مع مراقبة تطبيقه بحزم، كما ندعو اليوم المنظمات الحقوقية والنسائية والجمعيات وكل مؤسسات المجتمع المدني، وندعو المثقفين والمتعلمين ورجال الدين المستنيرين أن يقفوا وقفة واحدة ضد هكذا ممارسات متلبسة بلبوس الدين والدين منها براء.
نعيمة رجب
جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية