حين ينهكنا العالم.. كيف نستعيد إنسانيتنا؟

في خضم ما نعيشه من أحداث مؤلمة حول العالم، وما يطفح به المشهد الإنساني من صور الفقد والدمار والنزوح، كثير منا يجد نفسه محاطاً بمشاعر ثقيلة لا يعرف لها اسماً. قد لا نكون نحن الضحايا المباشرين، ولا عايشنا التجربة وجهاً لوجه؛ لكن مجرد المشاهدة اليومية عبر الشاشات كفيل بأن يترك ندبة داخل الروح. هذه الندبة قد تتمظهر فيما يسميه علماء النفس بـ “الصدمة الثانوية” أو “إجهاد التعاطف”، حيث تتسلّل إلينا مشاعر العجز واليأس شيئاً فشيئاً، حتى نفقد جزءاً من تعاطفنا الطبيعي مع الآخرين. وهنا تكمن الخسارة الأكبر: أن نخسر إيماننا بالإنسانية ذاتها.

غير أنّ لهذا التيه الروحي مخرجاً بسيطاً وعميق الأثر في آن واحد. فثمة باب صغير يمكن لأي إنسان أن يلجه لإنقاذ قلبه من التبلّد والقسوة: أن يقوم بعمل إنساني مهم بدا ضئيلاً وصغيراً. قد تكون كلمة طيبة، ابتسامة صادقة، التفاتة اهتمام لشخص مهمَل أو متعب. هذه الأفعال الصغيرة ليست مجرد لفتات عابرة؛ بل هي أشبه بجرعات إنعاش تعيد إلينا إحساسنا بذواتنا الطيبة.

ومن هنا يجدر بنا أن نتذكّر أن العمل الإنساني لا يبدأ بالضرورة من المبادرات الكبرى، ولا من ساحات الكوارث البعيدة فحسب؛ بل يبدأ أول ما يبدأ داخل بيتنا وبين أُسرنا. فالأسرة هي الدائرة الأقرب لقلوبنا والأولى بعطفنا وعنايتنا، فالأقربون أولى بالمعروف” . فإذا أجدنا الإصغاء لأبنائنا ونحن في زحمة انشغالات الحياة، وإذا دعمنا شريك حياتنا بكلمة سند صادقة، أو أحطنا والدينا بمزيد من الرحمة والاهتمام، فإننا نكون قد مارسنا أرقى أشكال الإنسانية في فضائنا الداخلي قبل أن ننشرها للعالم الخارجي.

وهكذا يصبح فعل الخير في محيط الأسرة امتداداً طبيعياً لفعل الخير في المجتمع؛ فالقلب الممارِس للتراحم داخل بيته سيكون أكثر قدرة على بثّه خارج حدود جدران المنزل. وبالمقابل، حين تهمل هذه الحلقة الأولى تضيق دوائر التعاطف شيئاً فشيئاً حتى يصبح العالم كلّه بارداً وقاسياً في أعيننا. فلننظر إذن إلى أعمالنا اليومية الصغيرة مع أسرنا كاستثمار عاطفي وروحي يذيب طبقات الإجهاد النفسي ويعيد إلينا يقيننا بأن الحب والرعاية قيم عملية قابلة للتجسيد.

إن الطريق لاستعادة إنسانيتنا ليس بالضرورة طريقاً معقّداً أو مرهقاً؛ بل يبدأ بخطوة صغيرة، بابتسامة تُشبه الضوء حين يقتحم غرفة مظلمة. والضوء بطبيعته لا يحتاج إلى الكثير ليبدو حقيقياً، يكفي أن يكون موجوداً… كي يهزم العتمة.

بقلم:د.رنا الصيرفي

مقالات ذات صلة

ولنا رأي

اللامتناهي = 1 لا يمكن حصر ما في الكون من التنوّع والتعدد فهو أكبر وأعمق بكثير مما نراه وندركه، وعلى الرغم من كونه لامتناهيا في…

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *