الحج الدور المغيّب

الأب، الأم، الابن، هنا ولدت الحضارة. منذ حمل الأب المسدد زوجته ورضيعه، ووضعهم عند آثار البيت المحرّم. حينها لم يكن هناك سوى رؤية بعيدة، لرجلٍ أمّة، كان شجيناً بحال زمانه وأناسه، يحمل طيفًا ملّهَمًا، بأن هذا المكان سيغدو مثابةً باقيةً أبدية. مضى الركب الثلاثي هناك، ليظعن في الوادي المطّهر. حيث لا شيء إلاّ الكثبان المترامية والصخور القاسية. يذهب الأب الواثق بالله ويترك بقية روحه، ابنًا.. وزوجة.

من هنا كانت البداية. حيث لم يكن إلاّ إبراهيم وهاجر وإسماعيل، أسرة صغيرة تُنشئ صرحاً مهيبًا بهيًا. أحيت أرضاً مباركة، ورفعت قواعد أعظم بيت، وحتى مِحَنِها حيلت مناسك عبادة. أسرة واحدة إتحد الحلم لديها وامتزجت أمانيها وتوحدت هممها، ليكون بيت الله مثابةً للناس وأمنًا، ولو بعد حين، ويكون الدين لله وحده لا شريك له. فتلك آثارهم تشهد أنهم في البِدء كانوا هم حيث لم يكن سواهم، فهذا هو حِجر إسماعيل، وهذا هو مقام إبراهيم، وهذا هو مسعى هاجر. وهذه صخور مكة تشهد كم ضحّوا وكم بذلوا.

في موسم الحج من كل عام، ومن تلك المشاهد المقدّسة التي تحمل مناقب هذه الأسرة العظيمة، تتجلى حقائق كثيرة لكل ذي عقلٍ وفهم، أروعها هو مقدار ما يشكله معنى الأسرة من أهمية محورية في المسيرة البشرية، ومقدار ما يمكن أن تنجزه أي أسرة لو اتحدت وتكاملت وتشاركت الحلم، لا سيّما إذا كان حلما أمميا وعالميا، وما يترتّب عليه من دور إنساني لنماء البشرية وبناء الحضارة. وهو درس عميق نتعلمه في مدرسة الحج، مدرسة إبراهيم وهاجر وإسماعيل.

وللأسف الشديد، أن معنى الأسرة في وعينا وفهمنا قد فقد الكثير من أَلَقِه، وأصبحت النجاحات ينظر إليها كإنجاز أفراد، والإخفاقات يتحمل مسؤوليتها أفراد، بينما الحقيقة الناصعة أن أعظم منجزين حصلا على هذه الأرض وفي تاريخ هذا البيت تحديدًا، قد تم على يد أسرتين عظيمتين، هما آدم وحواء بِدءا في بناء البيت، وإبراهيم وهاجر تجديدا له..

إن ثقافة البطل الواحد ومفهوم المنجز الفريد للفرد الأوحد، لا تصنع حضارة أبدًا ولا تصمد أمام العديد من التحديات. فضلاً عن أنها تقتل حس الإستنساخ والإقتداء لدى الإنسان. بينما قراءة المنجزات البشرية بوصفها عمل مؤسسي، تَشَارك فيه مجموعة من الأفراد كمّلوا بعضهم البعض وتضافرت جهودهم من أجله، هو ما يجعل من الأحلام الصعبة والبعيدة في المتناول ويمكن تحقيقها. وهذا ما تشكله مؤسسة الأسرة كمفهوم وبُعد أراد له الله سبحانه أن يكون لكل البشرية. وهذا هو أحد الدروس العميقة التي نستلهمها من هذه الأسرة الخالدة في موسم الحج من كل عام.

وأخيراً نقول..

إن الله سبحانه جعل الحج فريضة واجبة، ليس لكي يحصل الفرد على الجزاء والأجر الأخروي من خلالها وتكون بالنسبة إليه بنكًا للحسنات فقط ويعزلها عن واقعه وحياته، بل أرادها لتلهمنا خيرنا وتُصلح دنيانا، وتصيغ نفوسنا وعقولنا صياغة الفرد الأنموذج في تكوينه الأسرة الأنموذج، التي تتحد وتتشارك حلمها وتعمل كفريق فاعل لخير مجتمعها وعالمها، دون إقصاء أو تهميش أو تنميط لدور أي فرد فيها لأي سببٍ كان. ذلك ما تُعلمنا إياه الأسرة المدرسة.. الإبراهيمية الهاجرية الإسماعيلية.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

naeimaar@yahoo.com

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *