الكرامة لا تُحتجز خلف الجدران

في خضم الجدل المتكرر حول عمل المرأة ومشاركتها في الحياة العامة، تتصدر من جديد خطابات تدعو إلى عزل المرأة عن ميادين العمل بدعوى “سد الذرائع” أو “درء الفتنة”، وكأن الأصل في وجودها التواري والانكفاء، لا الإسهام والعطاء.


والحقيقة أن النظرة المتزنة تنبثق من فهم شامل لطبيعة الإنسان، رجلًا وامرأة، ودورهما في عمارة الأرض. فالمرأة، كما الرجل، كيان مكلّف ومسؤول، تحمل من المواهب والقدرات ما يجعلها شريكًا لا غنى عنه في البناء والتنمية.


لقد أثبت التاريخ الإسلامي أن مشاركة المرأة لم تكن طارئة ولا استثناء، بل واقعًا راسخًا؛ فقد عملت خديجة بنت خويلد بالتجارة، وشاركت رفيدة الأسلمية في التمريض وقت الغزوات، وتصدرت فاطمة الفهرية تأسيس واحدة من أعرق الجامعات في العالم. هذه النماذج تكشف أن حضور المرأة كان – وما يزال – جزءًا من معالم النهوض الحضاري.


أما في واقعنا المعاصر، فشواهد العطاء النسائي تتحدث عن نفسها، لا سيما في أكثر البيئات صعوبة وقسوة. في غزة الجريحة، نرى المرأة وسط ركام المستشفيات، تضمّد الجراح، وتحضن الأطفال، وترافق الثكالى، وتثبت أن العاطفة لا تتناقض مع القوة. في مواقع النزاع، لا تغيب المرأة عن ميادين الإغاثة والمرافعة الحقوقية، فتكون صوتًا للضعفاء حين يصمت العالم. وفي أحياء الفقر، والمدارس الميدانية، والصفوف الأولى لمحو الأمية، تقود مبادرات تعليمية وتنهض بأجيال كاملة، غالبًا دون دعم كافٍ، ودون أن يُسلّط عليها الضوء.


كل هذه الأدوار لم تكن لتتحقق لو أن مشاركة المرأة حُصرت في محيط مغلق لا يُسمح لها فيه بالتفاعل مع واقع مجتمعها. إن عزلة المرأة خسارة حضارية، تمامًا كما أن استغلالها ابتذال أخلاقي.
الاختلاط في بيئات العمل ليس محظورًا بإطلاق، بل يُنظر إليه من خلال طبيعته، وأهدافه، ومدى احترام القيم الأخلاقية. فكم من بيئة مختلطة منظمة تتسم بالاحترام والجدية، في مقابل بيئات أحادية تفتقر إلى الضوابط والسلوك القويم. الأمر ليس في العدد ولا في الجنس، بل بمستوى الوعي والسلوك الأخلاقي لدى الأفراد.


من غير المقبول أن تُدفع المرأة إلى زوايا العزلة تحت شعارات الستر، في وقت تتطلب فيه مجتمعاتنا جهود كل إنسان قادر على العطاء، ضمن منظومة قيمية تحفظ التوازن بين الخصوصية والمشاركة.
إننا بحاجة إلى خطاب عقلاني، يتجاوز الثنائية المفرطة بين المنع المطلق والانفلات الكامل، وينطلق من روح الشريعة لا من انفعالات مشرعيها، ليصوغ مواقفنا من واقع نعيشه، لا من مخاوف نتخيلها.

بقلم : د.مينا الكاظمي

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *