هل نتخيل عالمًا بلا غذاء

في عصرنا الحالي، أصبح هدر الطعام مشكلة عالمية تتطلب حلولًا عاجلة، فالتقارير تشير إلى أن ثلث الطعام المُنتج عالميًا يُهدر سنويًا، مما يتسبّب في خسائر بيئية واقتصادية هائلة. ففي عام 2022 وحده، تم إهدار 1.05 مليار طن من الطعام، وهذا الهدر يسبّب في انبعاثات الغازات الدفيئة بنسبة 8-10% من الإجمالي العالمي، وهو ما يقارب خمسة أضعاف انبعاثات قطاع الطيران!  

لم يكن مفهوم تقليل هدر الطعام حديثًا، فقد عرفته البشرية منذ القدم واستخدمت تقنيات مبتكرة لحفظ الطعام لضمان استمراريته.

ويذكّرنا القرآن الكريم بضرورة شكر النعم التي منحنا الله إياها، حيث قال الله تعالى: “وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ” (سورة إبراهيم، آية 7). هذه الآية تؤكد أن شكر النعم يؤدي إلى زيادتها، بينما كفرها يسبب فقدانها، وهو ما ينطبق بشكل مباشر على النعم الغذائية حيث شكرها يتمثل في الحفاظ عليها من الهدر.

في العصور القديمة، كان حفظ الطعام أمرًا ضروريًا لضمان توفره خلال أوقات القحط والفصول الصعبة. فالعديد من الحضارات استخدمت طرقًا تقليدية أصيلة مثل التخمير والتجفيف والتخليل للحفاظ على الطعام لفترات طويلة. على سبيل المثال، كان تخمير الخضروات شائعًا في آسيا وأوروبا. كذلك، كان تجفيف الفواكه والخضروات والأعشاب يُعد من أقدم وسائل حفظ الطعام. إلى جانب ذلك، ساهمت طرق التخليل والتملّح في الحفاظ على الخضروات واللحوم. وفي القرن التاسع عشر، جاء ابتكار التعليب سواء في العلب المعدنية أو الزجاجية ليمثل قفزة كبيرة في طرق حفظ الطعام لفترات أطول، خاصة خلال الحروب والرحلات الطويلة.

رغم التطور التكنولوجي الهائل، يواجه العالم اليوم أزمة متزايدة في هدر الطعام. فالفائض الكبير في الإنتاج، ورفض الفواكه والخضروات غير المثالية في شكلها، وسوء الفهم للتواريخ المطبوعة على المنتجات، كلها تسهم في تزايد هذا الهدر، ناهيك عن كونه مسؤولًا عن خسائر اقتصادية كبيرة، حيث تُقدّر تكلفة هذا الهدر بحوالي تريليون دولار سنويًا . هذا الوضع يتطلب إيجاد حلول مستدامة للحد من الخسائر والآثار البيئية السلبية المرتبطة به، فعلى الصعيد العالمي، تسعى الشركات والمنظمات لتطوير حلول حديثة ومستدامة، من بين هذه الحلول إنتاج الأطعمة المعاد تدويرها، حيث تُصنع منتجات غذائية من مكونات كانت ستُهدر مثل قشور الفواكه والخضروات. في الوقت نفسه، تلعب الزراعة الحضرية دورًا مهمًا في تقليل الفاقد من الطعام خلال عمليات النقل، وتساهم في دعم الاقتصاد المحلي من خلال زراعة الطعام في المدن.

في مواجهة هذا التحدي، يمكن لكل فرد أن يسهم في تقليل هدر الطعام داخل منزله من خلال اتخاذ بعض الخطوات البسيطة، فالتخطيط المسبق للوجبات يساعد على شراء ما هو ضروري فقط، مما يقلل من احتمالية فساد الطعام. كذلك، يُعد التخزين الصحيح للأطعمة أمرًا مهمًا في تمديد صلاحيتها. ومن النصائح المفيدة أيضًا استخدام المنتجات التي تبدو غير مثالية في شكلها، فهي لا تزال غنية بالعناصر الغذائية، فبدلاً من رمي بقايا الطعام، يمكن تحويلها إلى سماد عضوي، مما يساهم في تقليل النفايات وتحسين التربة.

تقليل هدر الطعام ليس مجرد مسؤولية فردية، بل هو جزء من الجهود العالمية لتحقيق الاستدامة. وباستخدام مزيج من الأساليب التقليدية والتكنولوجيا الحديثة، يمكننا جميعًا المساهمة في تقليل هذا الهدر وحماية البيئة من خلال خطوات بسيطة في منازلنا ودعم المنتجات المستدامة. هذا الجهد الجماعي يعزّز فرص الحفاظ على مواردنا الثمينة للأجيال القادمة.

بقلم:د.مينا الكاظمي

مقالات ذات صلة

تشكيل الهوية الفطرية (الجنسية) للطفل، متى؟

يعتقد البعض عندما يسمع مصطلح الهوية الفطرية أو الجنسية، بمعنى أن يتعرف الطفل على هويته كذكر أو أنثى، بأنه إما أمر لا يجب التفكير فيه فهو تلقائي أو أنه أمر نحتاج أن نفكر فيه ونهتم بأمره عند اقتراب الطفل من سن البلوغ. ولكن الهويات بشكل عام هي قواعد أساسية لدى الإنسان، لذلك فإنها تتشكل منذ سنوات حياته الأولى.. فالهوية الجنسية تبدأ  بالتشكل في…

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *