معاناتك تحت المجهر
انسابت في الصحارى الهاجرة لتبديد معاناتها، لم تخطىء حينها حاجتها أو تتوه عن وجهتها أو تغفل غايتها. إذ ليس أكبر في تلك اللحظات لديها من رشفة ماء تروي مولودها، لتتدفق حينها هاجر نحو السراب كنهر ينشد البحر العظيم، وتعود بعد أن تدرك أن حلم الارتواء مجرد وهم متبدد، لترابض بعدها على ثغر المحاولة، ساعية بين جبليّ الإرادة الصفا والمروة.
هو مشهد تسامى في الزمان لامرأة خلّدها الديّان، بأن جعل مسعاها نُسُكًا، ودار وحدتها ووحشتها بقعة تحشد ملايين البشر من حجيج الله في كل عام. فلا أعظم من دروس ألقتها هاجر على أعتاب البشرية، منذ كانت هي واسماعيل عند البيت المحرّم، حين لم يكن سوى قسوة الكثبان وغربة الصحارى.
فواحدة من أبلغ المعاني التي رسّختها وأكثرها تأثيرًا على حياة الإنسان وسعادته لو تأمّلها واستوعبها، هو درس تحديد المعاناة وتعيين ماذا يحتاج المرء على وجه الدّقة، وذلك في مسيرة حياته أو في مواجهة أزماته وتحدياته وظروفه ومصاعبه، ومن ثم الانطلاق بهذه البينة نحو تبديد هذه المعاناة وإشباع هذه الحاجة، وهذا هو عين ما فعلته هاجر (ع) وخطّته بسعيها الخالد بين جبليّ الصفا والمروة. فقد أدركت في تلك الصحارى القاسية أن فقد الماء هو معاناتها الأولى مع وليدها قبل أي شيء آخر، فاتخذت قرارها وانطلقت تبحث عن ما تحتاج إليه دون غيره في هذه اللحظة، وبقت تسعى دون كلل لتأمين حاجتها الأساس ورفع معاناتها الكبرى، فلم تحد ببصرها عن سراب الماء أو تبدّل وجهتها دون بريقه.
وهذا بعكس ما هو واقع للأسف عند أغلب البشر، فملايين من الناس عانوا وقاسوا وكابدوا، وقد بذلوا سنواتهم وانقضت أعمارهم سعيًا وكدحًا دون أن يعرفوا عن ماذا يجب أن يبحثوا، وفي أي اتجاه يجب أن يذهبوا، ولأي غاية تنفعهم يجب أن يجهدوا ويعملوا ويثابروا -وهنا يطرح سؤال محوري: هل ما نريده هو عين ما نحتاجه؟!- ليبقى الألم أخيرًا وسط هذا الضياع هو أكبر قاسم مشترك تشاطرته البشرية.
إن الذي خطّته هاجر في ذلك الزمان هو منهاج معرفي، يُعلّمنا كيف نحيا بوضوح رؤية في كل شؤوننا، ولئلا نحيا ونسعى عَبَثًا دون تعيين دقيق لما نحن محتاجون له وسائرون إليه. وهذا هو ضرورة وأساس لا يلتفت إليه أغلب البشر، فحاجتهم لتحديد معاناتهم، وإدراكهم بجلاء لما يفقدونه ويفتقرونه، ورؤيتهم الجلية لأين تكون سعادتهم وكفايتهم وحياتهم وإنسانيتهم، هو ضرورة ليعرفوا عندها أولوياتهم الأصيلة أيّان يلقوها ويشبعوها.
فإلى كل من عرف الحج وأكبره وأجلّه، بمسعاه وطوافه ومناه وعرفاته، هلا حددت معاناتك اليوم في هذه الحياة أين تقع! وعيّنت حاجتك وفقرك أين يكونا –على كل الأصعدة-!، وهلا خرجت من هذا التيه لتدرك نقصك الحقيقي وتمضي ساعيًا لإكماله. وهل أدركت أخيرًا مكان النبع على وجه الدّقة وطفقت ساعيًا إليه. فالحج ذلك النسك العظيم لم يكن يومًا موسم قربات وحسنات أخروية بمنأى عن النهوض بواقع الإنسان وحلّ قضاياه ومعالجة مشاكله، فما لم تقلّ مساحة مشاكل الإنسان وأزماته وتزداد مساحة معارفه وأدواته، لا يستطيع أن يقول أنه أدرك الحج الحقيقي بمضامينه العظيمة والواسعة والمتجددة.
كلمة أخيرة..
إن هاجر قد حددت معاناتها وعيّنت ما تبحث عنه، ثم سعت وأدركت غايتها وارتوت، ولكن يبقى ملايين البشر متعثرين في تيههم وظمأهم، فمتى يا ترى يصلوا ويرتوا!.
نعيمة رجب
جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية
استجابات