قبسٌ في منتصف الطريق

كأثرٍ من زمنٍ جميل يطلُّ علينا وسط الركام، وقبسٍ منير يضيء لنا طريق العودة. حين يأتي يوم الأمّ يؤوب إلينا ربيع المعاني، وعندما نحتفل بعيده تعود إلينا ذكرى القيم، ويستيقظ في وجداننا حنيننا العميق، لمُثُلٍّ قلّما نراها في حاضرنا في غير الأمّ، ومعانٍ بيضاء غابت وضاعت. وندرك كبشر، حقيقة أننا قد بعدنا وتاهت بنا دروبنا، ولَكَم جفا إنساننا وقسى إحساسنا.

في عيد الأم نعود لأصالة الإنسان فينا، أَوَليست الأعياد ذكرى!، ونبحث في يومها عن أَلَق المعاني!، كَون الأم والأمومة هما العنوان الأكمل لمبادئ خلقها الله لكل البشر، ومعانٍ عامة أمر سبحانه وتعالى عبيده أن يتمثّلوا بها ما عاشوا، وجعلها سفن نجاةٍ من أحقادنا وأنانيتنا وغرورنا وظلمنا. ونتساءل انطلاقًا من هذا، وانبثاقًا من قيمٍ كان أبرز حامليها الأمّ باتجاه أبنائها: أين حلّت هي فينا؟ أين هي منّا قيم الإنسان، أين الخير والإحسان والعطاء والتضحية..إلخ؟، أين الحب غير المشروط؟ أين الصفح والتغاضي والتسامح؟ أين العمل والخدمة بحب؟، أين التفاني في الأداء؟ أين وأين وأين؟؟؟؟؟؟؟؟ .

لم يعد لنا اليوم خيار أو طريق آخر، سوى في العودة لقيم الإنسان، لصفائه ونقائه وحبه وتسامحه، إذ العالم بلغ من بؤسه وتشظيه مرحلةً هي الأسوء في تاريخه، والإنسان أصبح كل يوم يزداد جفاءً لأخيه الإنسان، ويتعاظم عنفًا ويتنامى قسوة، ويفقد في كل ساعة ولحظة أثرٍ جميل أودعه الله في أعماق كيانه، وجواهرَ إنسانية قرر أن يرحل منها، وقيمٌ وجدانية أعلن أنه مستغنٍ عنها، ويا لَبؤس هذا الإنسان! يبحث بعد كل هذا عن أنسٍ وراحة واطمئنان!.

إننا اليوم بحقّ، نحتاج إلى قيم الأمّ والأمومة، نحتاج أن نجعلها فيما بيننا ونسكنها حاضرنا ومستقبلنا، كم نحتاج لصبر الأمّ وتسامحها أن نتمثّله في علاقتنا مع بعضنا ومع الآخر. وكم نفتقد ذاك التغاضي والصفح لديها أن ننتهجه في سلوكنا فيما بيننا نحن البشر، ولَكَم نحتاج أن نتقبل بعضنا ونحب بعضنا دون شروط، كما الأمّ تجاه أبنائها وإن اختلفوا أو شطحوا أو أخطأوا.

حتمًا إن دنيانا سنحياها جنّة إن أنعشنا مبادئ كادت أن تموت وأيقظنا قيمًا من سباتها الطويل، لتعود لتحكم حياتنا وعلاقاتنا وأعمالنا وأفكارنا، وتمتزج بكل جزىء من ذاتنا ووجودنا، لأن فيها خلاصنا من شقائنا وبؤسنا. وسنشعر أخيرًا بطاقة الحب داخلنا كم هي عملاقة ومؤثرة إن أعطيناها مساحة من كياننا وأنفسنا، لتعبّر عن نفسها كصلات وعلاقات متماسكة وصحية، وكذلك أيضًا منجزات إنسانية ونجاحات بشرية، وسنعلم حتمًا كم هي قوة التسامح والصفح بإمكانها أن تصلح ما فسد من أنفسنا وعالمنا، بل وتشيّد صروحًا في الحب والإخاء والتراحم.

إننا اليوم إذ نحتفل بعيد الأمّ، ونحتفي بيوم الأمومة، وننحني إجلالاً لكل مبدأ وقيمة ارتبطت بها وفيها، نؤكد محورية القيم الفاضلة لسعادة كل إنسان، ومركزية المُثُل في كل علاقة متماسكة ومتزنة تربط البشر ببعضهم. ونشدد كذلك على أن الأمّ كما كانت هي الجامع للأبناء والرابط القوي في أخوّتهم وعلاقتهم مع بعضهم، لا بد لنا أن ننطلق منها كذلك نحو إخاء إنساني يربطنا مع كل إنسان يشاركنا على هذا الكوكب، مهما اختلفت ثقافته وحضارته وديانته وانتمائه.

ألف تحية لكل أم على وجه الأرض. عاشت بأمومتها، وزرعتها في أبنائها قيمًا ومعاني لا تموت.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

naeimaar@yahoo.com

مقالات ذات صلة

من قبل أن نُستهلك

بإزاء الإرادة ستقف الأصالة شامخة، رغم كل ما يراد لتشويهها ومسخها وتحويلها إلى كائن بلا ملامح، وبإزاء العزيمة الصلبة وثبات القيمة المحمولة، لن تستطيع أي…

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *