عرفه تنادي.. لا تطغَوا في المعرفة
ما تناست المعرفة صعيدها في عرفة وما غفلت عن جوار البيت الحرام. وما أعرضت عن جبال مكة أو زهدت في واديها. وانبثقت من هناك من جوار الحرم الآمن لتضيء الأرض، مؤكدةً في كل حين أن ذاك هو مكمنها ومسقطها، ليكون لها هذا شراعًا نحو هديها وسلامها واتزانها وأمانها. تلك هي المعرفة في أرض المعرفة عرفات -عرفات المتضافرة جلّ معانيها التي عرفناها من ديننا ومأثورنا وتراثنا في كونها ارتبطت بالمعرفة والعرفان والتعرّف-.
إن جعل موطء قدم للمعرفة في مكة بجوار بيت الله المحرّم مسرى المصطفى ومقام الخليل، له مداليل ومضامين لطالما غفلتها أو تغافلتها البشرية. وهي أن المعرفة لا بد أن تقترن بهدي الله وأن تدور مدار تعاليمه لعباده، وأن لا تخرج لإفساد سننه في أرضه وخلقه وموجوداته، وأن تبقى لا تغادر رشاد أوامره ونوره وخيره للعالم بمكوناته من البشر وغير البشر.
وقد رأينا ما أنتجته المعرفة طوال تاريخها الطويل حين ابتعدت عن الله وهديه وتعاليمه. فأُتقنت على ضوء هذا معارف الدمار والحروب وصناعة عتاده وأدواته، وبِيد ملايين البشر على إثر هذا عوضًا عن تحسين حياتهم وإسعادهم. كما ساهمت من زاوية أخرى تلك المعرفة المبتعدة عن الله في تعزيز طغيان البشر وعلوهم على بعضهم، فازدادت الهوة بين الجائعين والمتخمين وبين الضعفاء والأقوياء وبين الخائفين والقادرين. ولم ينجُ أي شيء من سطوة هذا الطغيان، فدُمرت البيئة واختل التوازن وظهرت آفات وآفات لم تكن لتنشأ لو أننا حافظنا على رشاد معارفنا ولم ننحرف بها بعيدًا عن صلاح إنساننا وعالمنا.
لا بد أن تعود المعرفة إلى جوار الله سبحانه كما هي في عرفة، وأن لا تخرج عن هدي الرحيم الخبير وتعاليمه، وأن تعزز سنن الله ونظمه في أرضه وعلى عباده في كل مجال، ماديًا كان أم أخلاقيًا، وأن تساهم بشكل فعال ومؤثر في انتقال الإنسانية – كل الإنسانية- من حال إلى آخر تتلاشى فيه معاناتها باختلاف أسبابها. فبهذا كله وغيره يكون خلاصنا نحن البشر وشفائنا من كثير مما عانيناه ونعانيه، جراء ما اجترحناه من تحويل أعظم النعم وهي المعرفة إلى سياط طالما عذبنا بها أنفسنا نحن البشر بكل معرفة حرفناها عن مسارها الخير والمضيء إلى اتجاهٍ آخر، -ونحن هنا إذ نقول كل ما سبق لا ننكر حجم استفادة البشرية اليوم من مختلف المعارف التي توصلت إليها، لكنا نسلط الضوء على الجانب المظلم من هذا الموضوع، علّنا نعيد رشاد كل معرفة انحرفت عن غايتها النقية والأصيلة-.
هي دعوة للجميع في يوم المعرفة “عرفة”، كل فرد إنساني أو اعتباري، أن يجعل لكل معرفة سواءً أدركها لنفسه أو منحها للخارج، أن يجعل لها حبلاً موصولاً مع الله ونوره وهديه وتعاليمه. وبهذا تكون المعرفة كل المعرفة وفي كل مجال كما هي في عرفة وصعيدها ويومها، عبادة ونسك وقربة من الله الرحمن ذي الجلال والإكرام.
كلمة أخيرة….
يأتي العيد بعد عرفة مباشرة، فهل يُنبهنا ذلك لشيء!؟ وهل هذا الترتيب يضيف لنا في فهمنا لمعاني العيد ومضامينه بعدًا جديدًا، وبالتالي يطلب منا أن نعيشه بطريقة مختلفة عما اعتدنا!؟.
نعم إنها المعرفة هنا، رقمًا حاسمًا في معادلة العيد، سواء كانت تلك المعرفة مادية أو معنوية، فحين يجهد الإنسان ليصل إلى المعرفة ويعيشها ويستفيد منها، مستلهمًا فيها هدي الله ونوره، فذلك هو العيد الحقيقي وليس في البهرجة والفرحة التي تفتقر إلى مضمون.
نتمنى لكل إنسان أن يحيا عرفة بمعرفة جديدة مرتبطة بالله، ويُزّين عيده بحصاد ما عرفه وأدركه… وكل عام والإنسانية كلها أوسع معرفة وأكثر سعادة بعيدها.
نعيمة رجب
جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية
استجابات