ولنا رأي
اللامتناهي = 1
لا يمكن حصر ما في الكون من التنوّع والتعدد فهو أكبر وأعمق بكثير مما نراه وندركه، وعلى الرغم من كونه لامتناهيا في حصر أجزائه فهو أيضا في اتساع وتطور، فما هو موجود من تنوع في الكائنات أو الثمار في هذا الزمان يختلف عمّا هو في الأزمان السابقة، وما سيأتي أيضا مختلفا في جيناته وتركيباته. ومن عجائب هذا الكون هو الاتزان والترابط بين أجزائه المتباينة لتشكّل وحدة واحدة متجانسة في كله، مختلفة في تفاصيله.
وتتأثر عناصر أو أجزاء الطبيعة بعضها ببعض، ولكل منها دورا هاماً، وبكلها تتشكّل روعة الخلق والجمال الذي يفوق حواسنا الخمس من إدراكه، سواء كانت تلك العناصر حية مثل النباتات والأحياء البرية أو البحرية أو غير حية كالكربون، والهيدروجين، والماء، والتربة، وغيرها. ويمكن بيان الترابط والتكامل بين الأجزاء ببعض الأمثلة البسيطة، فمثلا حين تعمل الزواحف على حفر جحوراً لها، فهي أيضا تحدث تخلخلا للتربة واختلاطا للجزء العلوي منها بالنفايات النباتية القابعة في أسفلها ما يزيد خصوبة التربة وبالتالي زيادة الغطاء النباتي، وحينما تقوم الكائنات الدقيقة بتحليل جثث وبقايا الكائنات الحية كغذاء لها، فهي تخلصنا من الكائنات الميتة وتحولها لمواد تغني التربة بالمادة العضوية المعززة لنمو النباتات، إنها هندسة دقيقة لعلاقات ودورات حياة طبيعية تشكّل كل منها نظاما محكما بذاتها وتتسق مع غيرها من الأنظمة بقدر موزون، لا هدر فيه.
إن تدخل الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال أنشطته ومساهماته في التخلص من أي عنصر في الطبيعية أو في الإكثار منه على نحو غير مدروس لأسباب تجارية أو غيرها، سيؤدي إلى عواقب وخيمة وممتدة تؤثر على النظام الطبيعي كله. فمثلا قامت إحدى الدول بالتخلص من الذئاب رغبة منها في حماية قطعان الماشية لديها، وبسبب استبعاد هذا الحيوان المفترس (الذئب)، حدث خللا كبيراً في السلسلة الغذائية الطبيعية وخللا بميزان العلاقة بين المفترس والضحية، فقد تكاثرت أعداد الماشية بشكل مهول، وبدأت تتنافس وتتناحر على الموارد الغذائية، ولم يكن للحشائش والنباتات الوقت الكافي للنمو التام، وفشلت النباتات الصغيرة في ترسيخ التربة والرواسب القيّمة فيها، كما تأثرت الطيور من انعدام غذائها من الحشائش والبذور التي تنتجها النباتات، ولقلة النباتات والأشجار ارتفعت درجات حرارة البحيرات والأنهار لانحسار الأشجار والشجيرات التي كانت تظللها. وقد تم إدراك سبب هذه الإشكاليات المتوالية .. لكن بعد ماذا!! ومتى؟ بعد ٦٦ عاما، فقررت الحكومة إعادة إدخال الذئاب في النظام البيئي في تلك المنطقة، وكانت النتائج مبهرة حيث تقلصت أعداد الماشية، وزادت وارتفعت الأشجار وتحسن الوضع تدريجياً.
إن كل ما في الطبيعة يعمل وفقاً لقانون الوحدة الكوني ويسمى أحيانا قانون الوحدانية، فهو الذي يحفظ العلاقة الصحيحة بين الجزء والكل فيها، فالجزء من الكل والكل من الجزء. إنها علاقات طبيعية تفاعلية متبادلة بين الكائنات، فمثل علاقة (الافتراس) السابق ذكرها، هناك علاقة التطفّل، حين يعيش مخلوق ما يسمّى الطفيليّ على كائن حيّ آخر (المُضيف) أو داخله، ويستفيد منه، وهناك علاقة تبادل المنفعة، وعلاقة التعايش، وعلاقة المنافسة، وأي تدخل في هذه العلاقات بإكثار عنصر أو تغييب أخر، تمتد آثاره المضرّة على النظام العام للطبيعة. الطبيعة لها نظامها الموزون في المقدار والتنوّع، والجغرافيا، ومكوناتها رغم كونها لامتناهية لكنها تعمل كنظام واحد، وما على الإنسان إلا أن يعيش محترماً للقانون الطبيعي الذي تعمل وفقه كي لا يدفع الثمن غالياً.
السنن الكونية لا تحابى أحداً
السنن الكونية وتسمى أحيانا القوانين الطبيعية وهي قوانين ربانية تحكم الكون وتعمل وفق منظومة محكمة، وبشكل دائم، فهي لا تتعطل ولا تُخترق ولا تتبدل ولا تتحول ولا يمكن تكيفها من قبل الإنسان أو غيره، وتسري في كل مكان وزمان، ولا تحابي أحد، فهويتها ولغتها كونية، لا تنتمي لوطن ولا تتحيز لعرق.
وعند المقارنة بين القوانين الطبيعية والقوانين الوضعية، نجد أن الأخيرة قد لا تحقق العدالة المطلقة، لأنها تختلف من ثقافة إلى أخرى، استناداً للقيم الأخلاقية التي تحكمها، كما أنه يمكن لمن يخترقها أن يفلت من جزائها حين تُسجّل القضية ضد مجهول أو تضيع الحقيقة في التمييز بين الجاني والبريء، فيما القوانين الكونية هي عدالة مطلقة لا تخطئ في التشخيص ولا يمكن لمن يخترقها أن يفلت من الجزاء ولو بعد حين. والقوانين الوضعية متغيرة قابلة للتعديل والتطوير، أما القوانين الكونية فهي ثابتة وموجودة قبل خلق الإنسان، وتحكم وتنظم الكون بأسره.
تعمل كل المخلوقات بشكل فطري وفقاِ للسنن الكونية منسجمة معها وخاضعة لأنظمتها فيما عدا الإنسان، فهو خاضع لأنظمة السنن الكونية سواء عَلِم بها أم جهلها، لكنه يملك الخيار في العمل وفقها أو بخلافها. فإن اختار أن يعمل وفقاً لرغباته وضد السنن الكونية فإنه اختار شقاءه بيده، فيما يسعد من يحترم تلك السنن وينسجم معها.
البذور حق الطبيعة
تعتبر البذور أساسا من أسس الحياة على الأرض فهي هبة من الطبيعة وإليها ينبغي أن تعود. وإذا تناولنا أهمية البذور من منظور السنن الكونية، فإن قانون الحصاد، “ما تزرع تحصد”، يعمل بالإتجاهين، فحين نبذر نحصد نتاجه وحين نتخلص من البذرة برميها أو إتلافها فإننا نعطل أسباب الحصاد وبالتالي نحصد عواقب السير في الإتجاه المخالف للسنن الكونية.
وقانون الحصاد هو هبة الطبيعة لنا بأن منحتنا خدمة مجانية لإنبات البذرة، هبة إعجازية لا يستطيع أحد أن يقوم مقام الطبيعة في تفعيل تلك الخدمة. فالطبيعة تتكفل بحفظ خصائص كل بذرة وبكل العمليات اللازمة لاحتضانها وإنباتها، ولا تخطئ الطبيعة في إنبات النبتة المطلوبة، إذ لا يمكن أن نبذر بذرة خيار فتخرج جزراً، ولا بذرة زهرة القرنفل فتخرج زهرة شقائق النعمان! كما تعمل البذرة وفقاً لقانون الحصاد بمعزل عن زارِعها، من كان ومن يكون، لأن القانون الطبيعي يعمل وفقا للعدالة والنزاهة المطلقة، ليعطي الحصاد من يبذر بمعزل عن هويته، ومن لا يبذر لا يحصد شيئا.
أيضا تعمل البذور وفقا لقانون العطاء، الذي يُعرف أيضا بقانون “العطاء والتلقي” الذي يجعل تدفق الطاقة في الكون عملية مستمرة، فالأخذ ينتج العطاء والعطاء ينتج الأخذ. فالبذرة فضلا عن دورها في إنتاج النبات فهي أيضا تحمل طاقة وتطلق ما تحمل من مواد معدنية غنية ذات أهمية كبيرة في نقل وإعادة تدوير العناصر الغذائية بين مكونات النظام البيئي الموجودة تحت الأرض. ولكن يجب أن تعطي أولا (بأن تبذر البذرة) لتتلقى نتاجها المتعدد، وعطاء الطبيعة يمتاز بالوفرة، فحين تضع مثلا بذرة فلفل في التربة وتعطيك لاحقاً ثمرة الفلفل، فإن الثمرة تمنحك حينها ١٥٠- ٢٠٠ بذرة لا بذرة واحدة، وهكذا من كل بذرة تنتج حصاداً وفيرا. فحري بكرم الطبيعة أن يقابل بالإحسان منّا، والإحسان للبذرة زراعتها إكراماً لقيمتها واحتراما وانسجاما للقوانين التي تعمل وفقها، وما رميها إلا تجردًا واعتداءًاعلى حق الطبيعة والعيش بخلاف قوانينها.
وعليه، يؤمل منّا بما قد هبنا الباري من العقل والتفكير أن نعي طريقة التعامل مع البذور بما يليق بعظمتها وجوهرها، وترجمة ذلك عملياً بالأمثلة والممارسات الحياتية البسيطة والمتاحة للجميع، ومن جملتها:
1- جمع البذور وزراعتها في موسمها المناسب فنرجعها لموطنها الأرض.
2- تبادل البذور مع الآخرين (جيران – أصدقاء- مشاتل) لزيادة التنوع والإنتاج.
3- جمع البذور، تنظيفها وتغليفها بشكل مناسب وتقديمها كهدايا في المناسبات المختلفة.
4- وضع البذور في التربة بغض النظر عن قابليتها للإنبات فهي مغذية للتربة ومكوناتها، ويمكن رميها في البحر لتتحلل وتكون غذاءً للأحياء البحرية.
وهناك الكثير من الأفكار، المهم هو الوعي بقيمة البذرة والتناغم والإنسجام مع القوانين والسنن الكونية التي تحكمنا وتحكم البذرة الصغيرة على حدٍ سواء،، ولنتذكر أن البذرة حق الطبيعة منها وإليها تعود.