في التطوع حياة
رجل عظيم يبادر بحمل قربة ماءٍ عن امرأة تمشي في الطريق ليوصلها إلى بيتها ، ويتعرف أثناء السير على أحوالها بأن زوجها قد قتل وخلف وراءه يتامى . لا يكتفي بالخدمة الأولى بل يعاود في الليلة الثانية بطرق باب تلك المرأة ليقدم لها مؤونة من الطعام (طحين وأشياء أخرى)، فيسمع بكاء أطفالها، فيسألها: أتخبزين أم تُسكتين الأطفال فأخبز ؟ تجيبه : أنا أقدر على الخبز ، فقم أنت بإسكات الأطفال. فأخذت تعجن الدقيق ، وأخذ الرجل يطعم الأطفال بمنتهى اللين والرفق. وهكذا يقوم هذا العظيم بأعمال مشابهة كل ليلة … ولو أنه موجود الآن لنال الجائزة العالمية للتطوع لما كان يلزم نفسه من أعمال يقوم بها ليلا في خدمة الناس فضلا عن أعماله النهارية لرعاية أمورهم وقضاء حوائجهم. إن هذا مثال لحالة التطوع الذاتي التي لا تندرج تحت كيان مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني ، وإنما هو مما جبلت عليه الفطرة السليمة في التحسس لحاجات الغير والسعي في سد مواضع الضعف لديهم. ولا نقصد بهذا المثال اقتصار الأعمال التطوعية على الأعمال الخيرية ، وإنما هي أحد مظاهرها. فالتطوع كغيره من الأمور الحياتية يتطور بأساليبه وأدواته ومجالاته ، كلما سخرت له وسائل متعددة من المناصرة الفردية والجماهيرية والتضامن المجتمعي والحث على المشاركة في صناعة القرار.. إلخ.
ونجاح مؤسسات المجتمع المدني قائم أساسًا على نجاح المتطوعين فيها، على الذين يكرسون جهدهم ووقتهم بإخلاص إيمانا منهم بأهمية ما يقومون به وبالقضية التي يحملون همها. وقد حددت الأمم المتحدة مناسبة 5 ديسمبر يوما عالميا للمتطوعين ، ويعتبر عام 2001 السنة الدولية للمتطوعين ، لذا سنسمع كثيرا هذا العام “السنة الدولية للمتطوعين 10+” . إلا أن الغريب أن هذه المناسبة غير محتفى بها كما ينبغى خصوصا على المستوى العربي. ربما نظن أن ذلك يعزو لكون ثقافة التطوع مغروسة بشكل تلقائي لدينا كمجتمعات لها أصولها الإسلامية الحاثة على البر والإحسان ، مما لا يستدعي لإفراد يومٍ للإشادة بالمتطوعين فيها. لكن المتأمل يرى أن مجتمعاتنا تفتقر بشدة إلى جعل التطوع عصبًا رئيسيًا في حياة أفرادها ، وإن وجد له وقتًا أعطي جانبًا من الاهتمام وإلا فلا تكلف لإلزامه كقناعة داخلية بأهميته مهما كان منشغلا ومهما كان منصبه أو جاهه. أليست القصة التي استهللنا بها هي لأمير المؤمنين عليا عليه السلام ، أكان يستحي من العمل التطوعي أو لا يجد له وقتا بحكم منصبه ؟ فيكتفي بالتبرع بماله للآخرين فيقومون بالأعمال التطوعية عوضا عنه.
لا ، إنما هو الهم الإنساني الذي جعله يخرج ليلا لتقصى الاحتياجات وسدها، وذلك عبرة ودعوة لنا في أن نفهم معنى التطوع وأهميته. فمن السهل في عالمنا السريع ودوامة المشاغل أن نتعلل بعدم وجود الوقت لممارسة الأدوار التطوعية وننأى عنها. فقد تحول التطوع إلى حالة شبيهة بالهواية التي تمارس أوقات الفراغ وتنقطع لأدنى انشغال. وهذه الصورة لا تمت للمعنى الجوهري للتطوع بصلة والذي يحمل معنى تكلّف الطاعة؛ أي طوّع نفسه وأرغمها على فعلٍ ما بما لا يعود عليه بالنفع بشكل مباشر وإنما مداره نفع الآخرين. فعلى المستوى المحلي هناك ما يفوق عن خمسمائة جمعية مسجلة لدى وزارة التنمية الاجتماعية ، فلو تخيلنا أن لكل جمعية فقط عشرة ممن يحمل الهم والفكر الصحيح في الاشتغال بالأعمال التطوعية لا الانشغال بها لكان لدينا خمسة آلاف متطوع في مجالات شتى، ولو كان بينهم بضعة شبابٍ لكان الانتاج التطوعي مدعما بهممٍ مبدعة تضاعف مخرجاته. وبإضافة المتطوعين خارج الجمعيات فإن العدد كاف لهذه الممارسة الإنسانية في الإسهام في تكامل الجهود وارتقائها لبناء الوطن.
ليكن احتفالنا هذا العام بهذه المناسبة العالمية في أن نعيد للعمل التطوعي جذوره مستذكرين قول رسولنا الكريم “ خير الناس أنفعهم للناس “ ، فهي دعوة للجميع بلا استثناء ليكون التطوع حياةً لا خيارا ومكونا أساسيا في حياتنا لا هواية لوقت ضائعٍ أو ملئٍ لفراغٍ قاتل.
منى العلوي
استجابات