إمرأة.. وخيار بوزن الجمر
حين تصبح حقوقنا جمرةً من نار، من منا يبقى على قبضها؟! من فينا يقوى على ضمّها؟! وهل منا مؤثراً لثّمِها على رميِها؟!، إنها الأسئلة التي في إجاباتها مائزاً بين البواسل والخانعين، والظافرين والخاسرين، والشجعان والمترددين. واللمسة المستعرة التي لا يقواها إلاّ المؤمن بحقوقه ملئ يقينه، والمنافح عنها ولو سلك طريقه إليها عبر جهنم وسقر.
تلك هي ترنيمة أم موسى التي لم ينقضِ صداها أبداً، حين اجتبت شامخة خيارها الأصعب، أن تقبض حقها جمرةً بين أناملها تلسعها وتكويها، دون أن تجعل الإستسلام والتنازل حتى مجرد خيار أخير. فحين انطلق الفرعون بسعاره الهمجي، يذبّح الولدان ويفني الأحلام ويحرم كل أم أن تحيا أمومتها، وقد بثّ لهذا جنوده قاتلي الأطفال يجوبون الأرجاء، باحثين عن كل طفلٍ ذكر ليذبحوه على حجر أمه، ترافقهم قوابل كأفاعي تنساب بين البيوت ترقب كل أم آن مخاضها ووضعها، ليصدر عندها حكم الإعدام للعدالة والطفولة وآمال الأمهات.
هنا انبرت أم موسى لتغيّر الأقدار، أعلنت في ذاتها أن حملها وولادتها وحياة مولودها وأمومتها، هو حقها الأزلي والأبدي الذي لن يسلب منها. لم ترضخ للوعيد والتهديد، لم تستجب للتخويف والترهيب، ولم يجعلها عويل الأمهات اللاتي ذبح أولادهن، أن تتراجع عن حقها في أن تكون أمّاً يبقى لها طفلها حياً، وكذلك لم تثنها أو تزهّدها بأمومتها سطوة الذبّاحين، الذين لم يتأخروا عن قتل كل أم تحامي عن طفلها أو تخبئه أو تخفي حملها أو وضعها.
لقد اتخذت أم موسى قرارها وتمسكت بحقها، بالرغم من عسر تلك الخطوة وصعوبتها في ذلك الظرف الخطير، الذي آثرت من هوله الكثيرات عدم الزواج والإنجاب، سيما وقد ألقى الفرعون أحابيله ونشر شياطينه، يترصد كل امرأةٍ حامل ليتلقف بالذبح وليدها الذكر عند ولادته.
إن مرابضة أم موسى على ثغر حقها، لم يكن مجرداً أبداً من اتخاذ تدابير حمايته ورعايته، إذ كانت شديدة التكتم على خبر حملها، حريصة على إخفاء آثاره حتى على المقربين منها، ولم تجعل أبداً أحدهم يشك ولو لوهلة، أنها تحمل في أحشائها جنيناً. وبقيت كذلك حتى آن مخاضها، وقد وضعت من أجله الخطط ودرست الخيارات، لتتجه لأسلم سبيل وأخفاه لتلد جنينها بعيداً عن شياطين فرعون وأفاعيه. وقد تم لها ما أرادت من سلامة موساها، بجهدها وحرصها وحسن تدبيرها، وبقي في حجرها مدة تعتنيه وترضعه وتمنحه حنانها في خفاء شديد وحذر كبير، إلى أن آن أوان إلقاءه في اليم بأمرٍ من الرحمن –وهذا مبحث كبير سنتناوله في مقالات أخرى-.
تلك هي معركة أم موسى التي خاضتها مع فرعون وانتصرت فيها، وكان سلاحها فيها إرادتها وشجاعتها وجرأتها وعزيمتها، ومسافة تحدٍّ لكل تخويف وترهيب أخذت تقطعها بثبات، وكان المغنم في كل هذا هو حقها وإنسانيتها وأمومتها.
لكنها هي القصة مازالت مستمرة لم تنتهِ بعد، تتكرر كل يوم مع كل امرأة على وجه الأرض، ومع كل حق لها يراد له أن يقبر، على أيدي فراعنة مختلفين بدواعي متبدّلة ومتجددة. فحقوقها الإنسانية والأسرية والوظيفية والسياسية والإجتماعية..إلخ، هي معاركها التي لم تنقضِ وقتالها الذي لم ينتهِ. والخيار بيدها دوماً، فهل تستسلم وتُذعن لفراعنة العصر، وتُجهض حقوقها خوفاً من لظى المواجهة وحرّ الطريق وبُعد المسافة وكبدها، أم تتمسك بها وتناضل من أجلها وتتخذ كافة الآليات الممكنة في سبيلها؟.
نعم.. لقد مضت أم موسى ظافرةً ومنتصرة، لكن التحدي باقياً لم يمضِ، فلنجعل هذه المرأة العظيمة خارطةً لطريقنا نحن النساء، لتعلمنا كيف تكون المطالب منافحة وشجاعة وصبر ومكابدة، وجهاد مضنٍ وعمل دؤوب، وترشدنا كيف تكون حقوقنا مأثورة ومقبوضة، حتى ولو كانت.. جمرةً من نار.
نعيمة رجب
جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية
استجابات