عين واحدة لا تبصر

الذين جعلوا العدالة عضين، وبتروا من الحقوق أجزاءها، وضربوا أوتادًا قاتلة في بدن الحق والمساواة والإنصاف، لمّا اعتبروا أنّ هذه كلها له م ومن أجلهم وإليهم دون سواهم، متناسين أن المعاني لا تُشطّر.. والحقوق لا تُرى بعين واحدة.. والمساواة لم تكن يومًا غربالا يسمح ويمنع. إنهم هؤلاء الذين تجدهم على أعتاب حقوقهم ينادون بكل فضيلة، وعند أبواب حاجاتهم وغاياتهم لن يدّخروا أي قيمة إلاّ ووظّفوها. بينما لغيرهم كل معنى أصيل هو محلّ نظر! وكل قيمة للعدالة والمساواة هي قابلة للمناقشة!.

قد اختلفت أشكالهم وأقوالهم وتنوعت أفكارهم وآراؤهم، لكنهم تشاركوا أن أغلقوا كل قيمة ومبدأ عليهم، وادعوا استحقاقهم وحدهم فيه دون سواهم. فعند كل انتهاكٍ لحقوقهم تجدهم يصدحون بالقيم التي طالما انتهكوها مع غيرهم، وعند أدنى ظلمٍ وبخسٍ وانتقاصٍ وتهميشٍ لهم تراهم ينادون بذات المبادئ التي رفضوها من سواهم، وعند أيّ مستوى من التمييز والإقصاء إليهم تجدهم يرفعون ألوية الحقوق والمواطنة والقانون والدين…. متغافلين عن كم ضربوا في تلك المبادئ حينما نادى بها المختلف عنهم والمتشاكس معهم.

فمنهم من رأى مكمن حظوته في انتمائه وطائفته، ومنهم من رآها في آرائه وأفكاره، ومنهم من رآها في دينه واعتقاده، ومنهم كذلك من رآها في عرقه وقوميته. جمعهم تبجيل ذواتهم وظنهم أنهم وحدهم من يستحق كل قيمة إنسانية ممكنة، وسواهم ما هم إلاّ شذّاذًا للآفاق ليست لهم أدنى أهلية لأن يتسنموا هرم حقهم ولو كان مُعطًى من رب السماء.

أما آن لهؤلاء أن يعوا أنّ ما رسّخوه هو رادٍ إليهم بشكلٍ ما، وما بذروه وزرعوه هم حتمًا حاصدوه وآكلوه ولو كان صبّارًا شائكًا وحنظلًا مُرًا، فتلك هي العدالة السماوية التي لا تخطئ أهدافها ولا تنحرف سهامها، مهما جهد البشر في الهروب منها والاختباء من سطوتها فإنها حتمًا تلقى مراميها، كعناق العدالة لإرادة المقدور في تزواج لا ينتهي، مهما ظن البشر أنه بالإمكان تلافي ذلك وتجنب نتاج أسلوب حياتهم الخاطئ وطريقة تفكيرهم التي لا تعترف بموجود غيرهم، إلاّ أن الحقيقة دومًا محطمة لغرور كل مغتر، فكما انتهكوا حتمًا سيُنتهكون وكما استكبروا سيأتيهم لابد من يطأهم متعاليًا دون حق عليهم. فمتى يا ترى.. يعي الإنسان حكمة الديّان!.

هي دعوة لتنظيف بيت أفكارنا واعتقاداتنا من أوهام أننا وحدنا من يستحق.. ووحدنا من يملك الأهلية.. ووحدنا من خلقت له دون سواه كل قيمة ممكنة سواء كانت إنسانية أو حقوقية أو حضارية. فذلك هو الشرط الأول للظفر بحقوقنا المفقودة وحاجاتنا المنسية، والمقدمة الأساسية لصناعة مستقبل أكثر عدالة وإنصاف ومساواة للجميع –وليس فقط لنا وحدنا!-. فبدؤنا بأنفسنا هو ضمانة استدامة ما نطالب به ونناضل من أجله.

إن هذا الوعي المتسامي في نظرته لقيم الحياة وحقوق البشر، وكونها لا يجب أن تكون لأحد دون أحد أو لمكوّن دون آخر، هي مسألة تتطلب الكثير من النزاهة ومن كسر لغرور النفس وقيود الأنا، لكنها تعطي من الثمار ما يستحق لأن يُبذل في سبيلها كل غالٍ ونفيس. فتأسيس مجتمع صالح حرّ تحترم فيه المبادئ لذاتها وليس على حسب معتنقيها، وتؤخذ الحقوق والقيم فيه كاملة دون تشطيرها أو تفصيلها على مقاس أحد دون غيره، هو ضمانة لسعادة كل إنسان وازدهار لكل البشرية ونماء كل ما من شأنه أن يشيد حضارة إنسانية لا تبيد ولا تندثر أبدًا.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

bahws@batelco.com.bh

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *