وجبة وأكثر

  أمٌ وأبٌ لا تفارق أعينهما الهاتف النقال، وابن أو ابنة محدّق في شاشة جهازه اللوحي، والعاملة تراقب الأبناء ريثما تجهز الوجبة!! كم يتكرر أمامي هذا المشهد وما يشابهه كلما جلست في مطعم أو مقهى.

  معاً ولكن غرباء! وكأنَّ المائدة التي وُجدت لتكون نهراً يجمع الأسرة تحوّلت إلى أرخبيل من الجزر المتباعدة، مشهد يعصر القلب ويعكس ما آلت إليه العلاقات الأسرية، ما يجعلني أتساءل: لِم تُحمّل الأسر أنفسها عناء الخروج وتتحمل ازدحام الشوارع وكلفة الوجبات في المطاعم وفي النهاية كلٌ مشغول بعالمه الافتراضي؟ لعل الإجابة المثالية تكون، الهدف هو تقوية العلاقات وقضاء وقت ممتع بتبادل الأحاديث!

ولكن كيف؟ وكلٌ متواصل مع كل شيء، ماعدا الجالسين معه! ولماذا جاءت النتيجة مناقضة للهدف، ألا ترون أن هكذا لقاءات قد تباعد بين القلوب ولا تقربها؟!

من المؤكد أن الوالدين ينشدان الأفضل لأسرهم، غير أنّ ضغوط الحياة والتزامات العمل ودوّامة عصر السرعة تجعلهم يعتقدون أنّ مجرد اجتماعهم على مائدة خارجية يكفي للتقارب، وبدون أي تخطيط أو نية واعية لإحياء اللقاء.

تشير الدراسات التربوية – مثل تقرير صادر عن المركز الوطني للإدمان وتعاطي المواد في جامعة كولومبيا عن فوائد المائدة العائلية – إلى أن الوجبات الأسرية المشتركة تسهم في تقوية الروابط، بناء شخصية الأبناء، تنمية مهارات الحوار وبناء الثقة.

الآباء المطّلعون يعلمون ذلك، غير أنّه قد غاب عنهم كيفية تقريب المسافات في العالم الافتراضي الذي يكاد أن يلغي العالم الحقيقي! فالآباء بحاجة للتفكير خارج الصندوق لاختيار محتوى ممتع ومناسب للجميع. مثلا: استدعاء طرائف وذكريات، مناقشة موضوع شيق، تبادل الآراء بخصوص فيلم، مناقشة ظاهرة عامة، أو أحد مواضيع (الهَبّة) التي تستهوي الأبناء للتعرف على الزاوية التي ينظرون منها.

قد نعيش اليوم في زمن تتنازعه الشاشات وتستنزفه السرعة، لكن المائدة العائلية لا تزال تملك سرّها في القدرة على إعادة لمّ الشمل. يكفي أن نقضيها بوعي، حتى نستعيد ضحكةً ضاعت، أو قصةً نُسيت، أو كلمة حب صنعت فرقًا، من خلالها يمكن للآباء استدعاء قصص وذكريات شخصية لغرس القيم ومكارم الأخلاق، ولسد الفجوة المعرفية والثقافية بينهم وبين أبنائهم بطريقة عفوية. فأثناء الوجبات حين تتقاسم الأسرة اللقمة والكلمة، تتحول المائدة من مجرد طعام للجسد إلى رسائل محبة ودفء تنعش الروح.فلنمنحْ مائدتنا اليومية فرصةً جديدةً نستحضرُ فيها الكلمة البسيطة الشيقة التي قد تُعيد الدفء لوجبتنا العائلية القادمة.

بقلم:أ.سعاد الزيرة

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *