لا تصنع أقفاصا

لا أتذكر بأن أبواي شرحا لي عن علاقة الإنسان بالطبيعة، فرغم إننا كنا نسكن في مدينة وليست قرية، ولكننا كنا محاطين بهالة أهميّة التناغم بين مكوناتها، فمازال صوت أمي ” الأميّة” في أُذني عندما أفتح صنبور الماء أو حين أملأ صحني بالطعام أو أرغب في شراء مستلزمات إضافية قائلا: ” لا تسرفي في نعمة الله”.


تعلّمت وأخوتي من أمّي بأن كلّ ما يحيط بنا هو نعمة ولابد من الحفاظ عليها، فهي تحرص على تدوير كل ما هو متاح في البيت وما يقع تحت يديها خارجه ليعاد استخدامه من جديد، فلم أرها ترمي الحليب المنتهي الصلاحية لأنها تصنع منه جبنة، أو الخضار والفواكه الذابلة لتحولها إلى مخلل ومربى، وقصاصات الأقمشة تجمعها وتخيطها لتكون مسّاكات للأوعية الساخنة في المطبخ.


ومن الأمور الجميلة التي كنت أراها، كانت تسقي المزروعات بمياه المكيّفات والشطف والوضوء، ناهيك عن بقايا الخبز والرز فهي وجبة للدجاج والحمام، فعقلها مشغول دائما بشكل تلقائي بما هو حولها، ومحاكاة الطبيعة جزء من سلوكها اليومي التلقائي تقوم به بدون تكلّف لأنه من مسؤولياتها المباشرة كما نحن.


تعلمت منها أن أستمتع بما هو حولي من شجر وحجر وبشر لأنهم مكمّلين لتكويني الإنساني، فقد طلبتُ منها يوما أن أربّي عصفورا، فقالت: تلك الأشجار مليئة بها، انظري إليها واستمتعي بدون اقتناء أقفاصا، فالشجرة موئل للطيور والحشرات فلا يحق لنا التعدّي عليها، والماء سرّ الحياة إن هُدر هلكنا، وكذلك مع سائر المخلوقات والمقتنيات.


سلوك تلقائي كان أهالينا يقومون به معنا، ليتنا فلحنا بغرسه في أبنائنا، لأننا سجنّاهم في الغرف الخرسانية، وربطناهم بالبيئة والطبيعة من خلال الشاشات والصور، لذلك لم تنشأ بينهم وبين الطبيعة علاقة حميمة، فتمخضت عن قناعات وسلوكيات لا تمت لها بصلة، مثلا هدر الماء والطعام أو هوس الشراء لا يعني ممارسة سيئة، بل هو من ضمن سلسلة الإنتاج أو الاستهلاك المستمرة الملبية لجشع التجار وشغف المستهلكين.


لكن! لم يفت الأوان بعد “إ ن تبدأ متأخرا خيرا من ألا تبدأ أبدا”، فمازالت الفرص مفتوحة لدفع الأبناء للجري حفاة الأقدام فوق الرمل والسباحة في البحر وتسلق الشجر واللّعب بالماء واكتشاف الزرع، بدلا من مراقبتها عبر الأجهزة الذكية، لنستعيد جيلا حاملا للرسالة وصائنا للأمانة، يستمتع بمخلوقاتها في موئلها لا سجّنا في أقفاصها.

بقلم :م.صبا العصفور

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *