الفساد والجوهرة المفقودة
عندما يختار الإنسان الفساد، فإنه يختار أن يخون أمانة الوطن والمجتمع، محطّماً قيم العدالة والصدق التي تُبنى عليها المجتمعات والأمم.
يحتفل العالم في التاسع من ديسمبر من كل عام باليوم العالمي لمكافحة الفساد، وتحرص منظمة الشفافية الدولية (وهي منظمة غير حكومية) على إصدار تقريرها السنوي حول “مؤشّر الفساد” والذي يضم قائمة للمقارَنة بين دول العالم من حيث معدّل انتشار الفساد فيها، وذلك تحقيقاً لرسالتها “نحو عالَمٍ متحدٍ ضد الفساد”.
إلا أنّ الفساد بجميع أنواعه لا يزال يستشري في كافة مفاصل المجتمع، والدليل على ذلك المؤشرات المتدنية لمعظم الدول .
والخطورة في هذا الموضوع أن أنواع وأساليب الفساد تتطوّر يوماً بعد يوم، نتيجة الانفتاح على العالم (العولمة)، و تطوّر التقنيات الحديثة التي تجعل من ممارسة الفساد أسرع وأسهل، وانتشاره أكبر، كما أن بعض التقنيات تحمي صاحبها وتُخفي هويتّه عن الناس فينجو من المسائلة القانونية.
وحين نسأل..من المتسبّب بهذا الفساد في عالمنا؟ سنجد الجواب واضحاً في هذه الآية الكريمة:
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ (الروم/ 41)
فالناس بممارساتهم الخاطئة هم السبب في الفساد، ومع مرور السنين يزداد الفساد توغّلاً في المجتمع وتتدهور الأخلاق بسبب الجشع والطمع والإسراف الذي يقترفه الناس، فمع أن الله سبحانه خلق الإنسان وجعله خليفة في الأرض لإعمارها وإنمائها، إلا أن ما حصل هو العكس، وذلك بإفساد الأرض والعبث بثرواتها الطبيعية، وانتهاك المنظومة القيمية، حتى أصبح الإنسان الخلوق يُنعت بالتخلّف والسذاجة، لأنه لا يقبل الرشاوى ولا يتحايل ولا يعتدي على الآخرين.
من نماذج الفساد التي نراها مراراً وتكراراً:
-استخدم مدير أحد البنوك نفوذه وسلطته، وقام بتعيين ابن صديقه رئيساً لأحد الأقسام، وحصل على مبلغٍ مُجزٍ من صديقه مقابل توظيف ابنه (فساد إداري)
-عقد أحد المرشِّحين للانتخابات النيابية صفقة مع أفراد دائرته الانتخابية، وذلك بتقديم مبالغ مالية، ومساعدات عينية مقابل التصويت له، وكان له ما أراد (فساد سياسي)
- قاضي مرموق يبرّئ أحد الأثرياء المتهم في قضية اعتداء وتحرّش بطفلة مقابل الهدايا الثمينة والرشاوى (فساد قضائي)
- الشركات التي تمارس الغش التجاري والتلاعب بالأسعار واحتكار السلع خلال فترة الأزمات (فساد اقتصادي)
ولو نظرنا إلى تلك الحالات لوجدنا أنّ العامل المشترك فيها هو “غياب الأخلاق”. فتلك الأنواع من الفساد الأخلاقي لها تأثيرات سلبية كبيرة على الأفراد والمجتمعات ومنها: انعدام الثقة بين الناس، وتفكّك الروابط الاجتماعية، وتآكل القيم والتقاليد الثقافية التي تشكّل هوية المجتمع أو الأمة.
فما هو الحل؟
لعلّ هذه الانتهاكات وتفشّي الفساد تكون بمثابة جرس إنذار يوقظنا من الغفلة ويعيدنا إلى فطرتنا السليمة “فطرة الله التي فطر الناس عليها” ويدعونا إلى التمسّك “بجوهرتنا النفيسة” وهي الأخلاق الحميدة.
الفساد عميق الجذور في مجتمعاتنا، ولكن هذا لا يعني أن نتغاضى عنه، بل هي معركة يجب أن نخوضها جميعاً، ليس فقط من أجل حاضرنا، ولكن من أجل مستقبل أبنائنا وأحفادنا. إن محاربة الفساد ليست مجرد واجب أخلاقي، بل هي مسؤولية جماعية تتطلب من كل فرد أن يكون جزءًا من الحل، وأن يلتزم بالنزاهة لنعيد بناء جسور الثقة في علاقاتنا، ونعيد الأمل لمجتمعاتنا، ونخطو نحو مستقبل مشرق تتحقق فيه العدالة وتنتصر فيه الأخلاق والقيم النبيلة.
فالأخلاق والقيم كانت ولا تزال منذ الخليقة جوهراً نفيساً يزيّن الإنسان ويسمو به، ويجعل منه إنساناً صالحاً قادراً على تنمية المجتمع وقيادته نحو الأفضل.
وصدق قول الشاعر أحمد شوقي: “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت…فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا”.
“يُظهر مؤشر مُدرَكات الفساد (CPI) لعام 2023 الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية أن معظم دول العالم لم تحقق تقدماً يُذكر في معالجة الفساد في القطاع العام. فلا يزال المتوسط العالمي لمُدركات الفساد دون تغيير عن 43 للعام الثاني عشر على التوالي، حيث سجّل ثُلثا البلدان درجات أقل من 50.مقياس مدركات الفساد يشير إلى درجة (صفر) بأنه فاسد للغاية، ودرجة (100) نظيف للغاية.”
بقلم:د.وجيهة البحارنة
استجابات