هل يقتلنا انعكاس صورتنا؟
قال إن كلباً دخل متحفاً مليئا بالمرايا في السقف، والجدران، والأبواب، والأرضيات.. فتجمّد مندهشاً لرؤيته مجموعة الكلاب تحيط به من كل جانب.. فأخذ ينبح ويرى أن الكلاب تنبح أيضا، ويرتدّ إليه صدى صوته بشدة أعلى. وفي اليوم التالي وجد حراس الأمن الكلب البائس ميتا، وتبيّن لهم بأنه مات خوفاً من انعكاسات فعله.
العالم من حولنا كالمرآة الكبيرة، لا تمنح امتيازات لأحد، وإنما تعكس أفعالنا، ونحن من نجلب لأنفسنا البؤس، والشقاء، والسعادة، والرخاء. وما يجري في العالم من تدهور بيئي -لم يسبق له مثيل- هو انعكاس صنعية سكان الأرض، وما هو قادم يحدّده اتجاه أفعالنا هل للإعمار أم للإضرار!!
سأتناول زاوية من الشأن البيئي تتعلق بالهواء الذي نتنفسه، حيث بيّنت إحصائية منظمة الصحة العالمية أن ٩ من كل ١٠ أشخاص يتنفسون هواء ملوثا!! إحصائية مخيفة جداً، ولا أظن أحداً يتجرأ بأن يدّعي أنه ذلك الواحد الذي يتنفس هواءً نقياً!! خاصة أن الهواء الملوث لا توقفه جغرافيا الحدود، إضافة إلى كون التلوث ليس مرئياً دائما، كي نتجنّبه.
تلوث الهواء هو مزيج معقّد من الجزيئات الصلبة كالجسيمات الدقيقة والغازات مثل أول أكسيد الكربون والأوزون وثاني أكسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكبريت، أو الميثان، وغيرها بحسب الأنشطة التي يتم ممارستها. وأتوقف عند نوعين فقط من الملوّثات، الأول في مجال الطاقة كاستخراج النفط والغاز والنقل وتعدين الفحم. وسبب التركيز على هذا المجال كونه عامل تلويث للهواء وهدراً للطاقة في آن واحد، حيث يتم حرق الغاز الفائض- ويسمى غاز الشعلة- ويشكل غاز الميثان النسبة العالية منه، الذي يخرج من باطن الأرض أثناء التنقيب عن النفط وإنتاجه، وهو ما نراه كلهب يخرج من فوهات عملاقة في المنشآت النفطية، وبحسب بيانات البنك الدولي فإن هذه الممارسة مستمرة منذ استخراج النفط وإلى الآن بسبب الافتقار إلى الاستثمارات اللازمة لالتقاط الغاز ونقله ومعالجته وبيعه، أو لعدم وجود تشريعات تنظّمه، أو لدواعي السلامة، إذ يتجمع النفط تحت الأرض ويتراكم الغاز حوله محدثاً ضغطا عالياً قد يؤدي إلى انفجارات، فيتم حرقه لتخفيف الضغط وإطلاق النيران في الجو. ويتم حرق حوالي ١٤٤ مليار م٣ سنويا بإمكانه أن يوفّر الطاقة لمنطقة بحجم جنوب الصحراء الأفريقية، ويدعو البنك الدولي شركات الطاقة إلى وقف جميع عمليات حرق الغاز بحلول عام ٢٠٣٠.
أما الملوّث الأخر، فهي الجسيمات الدقيقة العالقة في الهواء PM=Particulate matter)) PM2.5 و٢.٥ هو قُطر الجسيم بالميكرون الذي هو واحد من الألف من المليمتر، أي لا يُدرك بالعين لأنه ١٠٠ مرة أقل من سُمك الشعرة، وتخترق هذه الجسيمات الرئتين ومجرى الدم، وتتسبّب في وفاة حوالي ٦.٤ مليون سنوياً. ويعتبر PM2.5 المؤشر الرئيسي في جودة الهواء، ولا يكفي رصد هذا التلوث، فهناك ٦٠٠ مدينة ترصد هذا المؤشر، إلا أن مستوى الجسيمات الدقيقة في هوائها غير صحي. وقد حدّثت منظمة الصحة العالمية مستويات التلوث بتركيزات PM2.5 محددة متوسط التعرض لها على مدار ٢٤ ساعة يجب ألا يتجاوز ١٥ ميكروغرام / متر مكعب. وهناك مواقع وتطبيقات الكترونية عديدة تنشر مؤشر جودة الهواء بشكل يومي، ومنها IQAir، المتخصص في تطوير مراقبة جودة الهواء، ويبيّن أن أكثر خمس دول تلوثاً في الهواء في عام ٢٠٢١ هي بنغلادش، وتشاد، وباكستان وطاجيكستان والهند (كما هو موضح في الصورة)، ويمكن متابعة جودة الهواء لأي بلد بشكل يومي.
إن كل ما سبق بيانه ليس لعرض المعلومات وإنما لنأخذ قفزات لا خطوات في قراراتنا اليومية بما يساهم في تخفيض حصتنا من تلويث هوائنا، وأول قرار أن نطلّع ونتثقف ثم نخطو عن وعي ذاتي، كي لا يهلكنا جهلنا بتبديد طاقتنا في محاربة انعكاس أفعالنا بدلا من علاج واقعنا.
أ. منى العلوي
استجابات