الأمان العاطفي … الحصن الأول لطفلك

في أحد الأيام، ذهبت إلى الخبّاز، وما أن وصلت حتى تلقّفتني طفلة لا يتجاوز عمرها الثامنة، وبمجرد أن ابتسمتُ لها، احتضنتني بقوة، وغمرتني بقبلاتٍ متتالية، وكأنَّنا نعرف بعضنا منذ زمن بعيد.
كان المشهد لافتًا لمن حولنا، وكان والدها يقف غير بعيد، يحاول سحبها بخجل ويعتذر عمّا بدر منها، طمأنته بلطف: “لا عليك، إنها طفلة”، لكن داخلي كان ممتلئًا بالأسئلة.

رغم براءة المشهد، أثار الموقف دهشتي، وجعلني أتساءل: أهو تعبير عن طبيعة ودودة وانفتاح اجتماعي، أم انعكاس لحاجة الأطفال أحيانًا للتعبيرالآمن عن مشاعرهم، أم ربما مثال على أنَّ بعض أنماط التعلّق قد تدفع الطفل للتشبث بالغرباء طلبًا للحنان في حال وجود فراغ عاطفي؟ 

أشارت بعض الدراسات، ومنها ما ورد في الكتاب المرجعي Handbook of Attachment (تحرير كاسيدي وشيفر، 1999)، إلى “أنَّ غياب الاحتواء العاطفي داخل الأسرة لا يترك فراغًا شعوريًا فحسب، بل قد يدفع بعض الأطفال إلى البحث عن مصادر بديلة للدعم العاطفي خارج بيئتهم الأسرية”.

إنَّ الأمان العاطفي ليس رفاهية، بل ضرورة نفسية، فهو ما يمنح الطفل شعورًا بأنَّه محبوبٌ ومقبول كما هو، لا كما يجب أن يكون، فحين يتوفر هذا الأمان في بيئة الطفل، يصبح معه أكثر توازنًا وثقة، ويكتسب القدرة على ضبط مشاعره، ومعرفة حدوده مع الآخرين.

فقبل أن نعلّم أطفالنا كيف يضعون حدودًا في تواصلهم، أو كيف يتصرفون في المواقف الاجتماعية المختلفة، علينا أولًا أن نوفّر لهم الأمان في محيطهم الأقرب، وهو البيت، وهذا الأمان لا يتحقق إلا من خلال أفعال بسيطة في ظاهرها، لكنها جوهرية في أثرها، مثل تكرار عبارات الحب غير المشروطة كقول: “أنا أحبك دائمًا مهما فعلت”، ومنحهم أحضانًا لا تنتظر مناسبة، والإنصات الحقيقي لمشاعرهم دون تهكّم أو تقليل، إضافة إلى الفصل بين الطفل وسلوكه، فنرفض الفعل السيئ دون أن نجرح ذاته.

يروي أحدهم عن والده – رحمه الله – أنه كان يوبّخه إذا أخطأ، لكن سرعان ما يعود لمعاملته بلطفٍ ومحبّة، كأنما يقول: “غضبي من سلوكك، لا يعني أنني توقفتُ عن حبك” ، تلك الطريقة لم تُفقده هيبته كأب، بل عمّقت شعور أبنائه بالأمان.

قد لا نُحسن التعبير عن مشاعرنا دائمًا، وربما لم نكن نتلقّى هذا النوع من الحب بدورنا، لكنَّنا قادرون على إهداء أطفالنا هدية لا تُقدّر بثمن: الأمان العاطفي، ليس فقط حاجتهم في صغرهم، بل زادهم في رحلتهم الطويلة مع أبنائهم.

بقلم:أ.نجاح إسماعيل

مقالات ذات صلة

تشكيل الهوية الفطرية (الجنسية) للطفل، متى؟

يعتقد البعض عندما يسمع مصطلح الهوية الفطرية أو الجنسية، بمعنى أن يتعرف الطفل على هويته كذكر أو أنثى، بأنه إما أمر لا يجب التفكير فيه فهو تلقائي أو أنه أمر نحتاج أن نفكر فيه ونهتم بأمره عند اقتراب الطفل من سن البلوغ. ولكن الهويات بشكل عام هي قواعد أساسية لدى الإنسان، لذلك فإنها تتشكل منذ سنوات حياته الأولى.. فالهوية الجنسية تبدأ  بالتشكل في…

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *