فرسان البداية.. متى بزوغهم ؟
ألقوا بأنفسهم على صفحة الحياة ليبددوا سكونها الميت، بصلابة حجرٍ حين يصنع حلقاته متحديًا صمت الماء، امتلكوا شجاعة أن يكونوا أول من يرمي، وأول من يتحرك، وأول من يصدح في ميادين طالما لفّها الصمت والتردد. دشّنوا عهودًا لم تكن لولا قرارهم بأن يتحملوا وحدتهم في خطوط البداية، ووحشتهم في مسيرة رسم العناوين، وغربتهم في رصف الدروب المتعرجة. إنهم الرايات الوضّاءة من بني الإنسان، هؤلاء الذين مسكوا بزمام المبادرة وحيدين ليقودوا عمليات التغيير، ويثوروا على الجهل في دروبٍ خوت من شجعانها، ويصيحوا للحق في ساحاتٍ لا يجيب الحقّ فيها إلاّ الصدى.
كثيرٌ مما نعيشه اليوم من حقٍّ ومعرفة وصلاح وعدالة وحرية…إلخ، كانت ستكون في خبر كان.. وماضٍ فات.. وحتى تاريخٌ مات وضاع لولاهم. كانوا قبل القوانين ينادون عدالتها، وقبل أن تتمزق أغلال الإنسان والأوطان صدحوا يغرّدون للحرية، وكانوا قبل إحقاق الحقوق متسنّمين مواقعهم يصارعون من أجلها. وقد كانوا ينادون للعدالة في ديارٍ خلت منها، وكم كانوا غرباء ووحيدين لأنهم كانوا في قضاياهم حين لم يكن أحدٌ فيها سواهم. حاربوا وحدهم ببسالة من أجل الحقّ والخير والحرية كيفما كانت وتحت أي عنوان صارت.
من هؤلاء أول من نادى بمساواة السود مع البيض في بلادٍ تفرّقهم. وأول من طالب بحقوقٍ للمرأة في بلادٍ هانت فيها المرأة. وأول من صدح بالحرية في ديارٍ محتلة. وكذلك أول من ثار على ما باد من أعرافٍ وجهالة، وأول من دعا لحقوق إنسانٍ في أوطانٍ اعتادت الطغيان. والعديد غيرهم في كل مجال استلزم أن يدشنه ويبتديه إنسان شجاع امتلك رؤيته وآمن بعدالة قضيته وتحمل وحدته في خطوط البداية.
إننا اليوم نبحث عن أناسٌ مثل هؤلاء ليحرّكوا المياه الراكدة، في مواطن لم يتقدم فيها أحدٌ ليقود التغيير وينادي بالحقّ المفقود. نبحث عنهم ليبددوا الصمت الموحش أمام مظالم وشرور وآلام لا حصر لها، إذ لم يمتلك أحدٌ فيها للآن ذلك الاستعداد ليتحمل تبعات أن يكون أول من يرمي في قضيته، على الرغم أنك ستجد الكثير ممن لديه الاستعداد ليكون تابعًا ومقودًا، لكنك قلما تجد من يقف في الصف الأول عارضًا نفسه لشتى الضربات ومواجهًا كل الخسائر المحتملة.
كثيرةٌ هي قضايا الحق في أوطاننا مازالت تراوح مكانها لذلك السبب، في شتى الجوانب على اختلافها كتلك المتعلقة بالمرأة والطفولة والمعرفة والبيئة والفقر والفساد وغيرها، مازلنا نفتقد في كثير من جوانبها لذلك الإنسان الذي يمتلك حس المبادرة وشجاعة البدأ في قيادة التغيير، مع عدم إنكارنا لنماذج إنسانية كهذه موجودة لكنها مازالت قليلة ومحدودة بشكل كبير، على الرغم من عظم التحدي وحاجة قضايانا لكوادر شجاعة تفتتح عهود نضالية جديدة. فالإنسان في أوطاننا للأسف غالبًا ما يتمنى من غيره أن ينوب عنه في تدشين العمل وقيادة السعي من أجل الظفر بما يريد من حق وخير، ويلتمس مكانه في قضيته فردًا من جماعة كثيرة، مبتعدًا عن أن يكون وحيدًا في خطوط البداية ولو لم يكن مفرًا بدءًا من الوحدة في هذا الطريق.
إننا من هنا نستشعر حاجة ماسة، بضرورة الوقوف عند نماذج شجاعة كتلك التي تحدثنا عنها، وذلك التماسًا لتكرارها ومحاكاةً لخطواتها الشجاعة والعظيمة، وبالتالي فوزًا لقضايانا التي تحتاج لتكرار شخصيات ونماذج كهذه. وهذا لن يكون إلاّ بدراستها كشخصيات ملهمة ومعلّمِة، وتتبع آثارها وتلمّس خطواتها، والبحث فيها كيف عاشت وماذا حملت من معانٍ، وما الذي جعلها تكون ما هي عليه. وكيف وصلت لما وصلت إليه من شجاعة ومعرفة وعمق في وعيها وإدراكها لأهمية ما تتخذه من موقف…. علنا بعد هذه المعرفة نستطيع أن نربي أنفسنا ونشأنا كيف يسيرون على هذا الدرب ولا يستوحشون أن يدشّنوا وحيدين عهود التغيير نحو حضارتنا القادمة وتطورنا الآتي.. وليكونوا بفخر فرسانًا في خطوط البداية.
نعيمة رجب
جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية
استجابات