عظيمات حول الكليم
حين تطالع قصة كليم الله موسى (ع)، لا بد أن تلتفت الى أن هناك مجموعة من النساء كان لهنَّ عظيم الأثر في حياته وشكّلن مراحل فاصلة في مسيرته، نماذج متعددة وناجحة إبتداءاً من أُمُّه المؤمنة التي حملت به وأنجبته وهي محاصرة بجواسيس يبحثون عن كل مولود ذكر، ليقتلوه بأمر فرعون مخافة زوال ملكه على يديه، ثمّ إلقائها به في البحر مطيعةً أمر ربها ومُغالِبةً لمشاعر الأمومة لديها، مؤمنةً بوعد الله سبحانه برده إليها “وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ”، وأيُّ بأس وصلابة لتلك الأم وأيُّ ثقة عظيمة بالله تلك التي تمكّنها أن تفعل ذلك برضيعها. قد يظنّ البعض أن أم موسى (ع) استطاعت أن تخطو هذه الخطوة الشجاعة بصفتها أم (النبي) القادم، مع العلم أنها – آنذاك – كانت تتصرّف بمشاعر الأمومة المحضة لأن موسى لم يكن نبيّاً بعد!
ومروراً بأخت موسى (ع) تلك المرأة التي اضطلعت بدور مهم بعد إلقائه في اليمّ، بتحسس آثاره والبحث عنه ومن ثَمَّ إقتراحها على زوجة فرعون بأن تجلب لها مُرضِعة، وكانت في هذا مثال للفطنة وسرعة البديهه والتي من إثرها بقت أمُّ موسى مع وليدها، وكذلك مثال لحفظ السرّ والقدرة على ضبط النفس والتحكّم في مشاعرها بحيث لا تفضحها عاطفتها فتفسد الخطّة الإلهية المرسومة لتنشئة موسى (ع) في بيت فرعون.
ولا نستطيع هنا بالطبع أن نتناسى دور المرأة العظيمة التي تبنّته وربّته وأنشأته في ظلها، زوجة فرعون التي ضرب الله سبحانه بها مثلاً للذين آمنوا في قرآنه ” وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ “، فاستطاعت أن تُنشئ “موسى” الراعي العطوف حتى على قطيعه في بيت طاغية! إلى جانب الكثير من الصفات الحميدة التي تحلّى بها (ع) من رحمة، وحلم، وسعة صدر، وصبر أهّله ليُبعث نبياً لبني إسرائيل العتاة، ولتقطع بذلك الحجة على من يدّعي أنه من المحال تنشئة طفل سويّ في بيئة موبوءة أو ظروف صعبة، مع ضرورة الاعتراف بأن المهمة هنا أصعب بكثير من تربية طفل في كنف والدين منسجمين، ولكنها بلا شك أكبر أجراً وأعظم قدراً، وليست مستحيلة بالطبع.
وأخيراً، الإمرأتان الكادحتان في مدين بنات شعيب حين كانتا تجلبان الماء من البئر لمساعدة أباهنَّ الشيخ، ولم تمتنعا عن القيام بهذا الدور كونهما نساء بين رجال، ولا ادّعيتا بأن هذه المهمة بحاجة إلى جهد بدني وقوة عضليّة لا طاقة لهما بها، أو أنها غير لائقة بهما، فالشعور بالمسئولية ونداء الواجب آنذاك كان هو الأولى بالاستجابة، كما أن كلّ ذلك لم يمنع النبي موسى (ع) من المبادرة بتقديم المساعدة لهما، ما حفّز إحداهنَّ أن تقترح على أبيها أن يستأجره لقوته وأمانته ” إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ “، وفي هذا ضربت لنا خير مثال في الإقدام على القيام بالمهام المناطة بها من جهة، والحكمة وبعد النظر من جهة أخرى.
حين نتأمل تلك النماذج من النساء، ونتأمل شخصياتهنَّ وأدوارهن وما قدمّنه وأنجزّنه، ونتأمل كذلك كيف ذكرهنَّ القرآن الكريم باحترام وإجلال كبيرين وذكر أدوارهن المختلفة، لأدركنا أيُّ دور مهم وعظيم لعبته المرأة في تاريخها وأيُّ عمق إيماني وأخلاقي بلغته، وأي مهام حسّاسة قامت بها بجدارة، إذ لم يكن هناك ما يوقفها من مصاعب إن أرادت وعزمت.
هؤلاء النساء ذكرهنّ الله سبحانه في كتابه الكريم ليكنَّ أعلاماً ومنارات تهدي مجتمعات الأرض، ولتتعلم الأجيال منهنّ معاني العطاء والتضحية والإيمان والحب. وهنّ النساء الحقيقيات لا الصورة الكاذبة التي يحاول البعض رسمها.
تلك العظيمات حول الكليم (ع) مع تعدد نماذجهنّ، مجرد مثال واحد على محورية مكانة المرأة في كل دعوة خير وصلاح، وفي كل عملية بناء ونماء وتطور.
نعيمة رجب
جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية
naeimaar@yahoo.com
استجابات