السعي خطوات في الواقع
لا شيء أروع من الحب إلاّ قلب احتواه، وذاتٍ صنعت نُسُكها كدحًا في سبيل من تحب. وليس كالأمّ هنا مع أبنائها في كل زمانٍ ومكان، قلبًا وسعيًا و صبرًا وتضحياتٍ لا تنتهي. بطاقةٍ من إحساس نزّهها الخلاّق عن الأغراض والمصالح، قد تجلّت في كل ممارسة لأمومتها، هذه التي تتلاقى فيها حركة الجسد مع حركة الروح، لتصبح عندها أعظم دليل على قدرة البشر على الحياة والحركة بالحب وحده، والحب فقط.
إن سعي الأمّ في سبيل أبنائها مدفوعةً بهذا الفيض الرباني للرحمة والحب (الأمومة)، هو الحركة الطاهرة والسعي المنزّه الذي ربما لا يدانيه في شرفه وعلوّه أي شيء آخر. وقد ضرب لنا الله سبحانه فيه أبلغ مثال إنساني، وحفظ لنا من خلاله مشهدًا هو الأجمل والأروع في أقدس بقعة على الأرض. وذلك في السعي الدؤوب للأمّ هاجر عند بيت الله الحرام لتأمين حاجة طفلها إسماعيل للماء مصدر الحياة، ليصبح هنا سعيّ هذه الأمّ -مدفوعةً بحبها لطفلها- هو النسك الضروري والشعيرة الواجبة لكل حاج ومعتمر لبيت الله تعالى.
ولكن من الملفت هنا، أنه على رغم كون كل مسلم على وجه الأرض يعرف هذه الشعيرة الواجبة، وهي السعي بين الصفا والمروة على وقع خطوات أمّ محِبة سعت بها لتأمين حاجة طفلها، إلاّ أن هذا الشيء لم يثمر في واقعنا ولم يتحول لممارسة عملية ننتفع بها في حياتنا، وهذا على اعتبار أن الحج بشعائره هو مدرسة نتعلم منها كيف نحيا وماذا نتصرف وأي طريقٍ نسلك وليس أن ننظر إليه فقط كجزاء وثواب نحصده في العالم الآخر دون تفعيله ممارسة عملية في حياتنا، وما حدث هنا هو ذلك للأسف، إذ تم التغافل عن هذا البعد في حياتنا العملية وخططنا، وذلك في عديد من النواحي، منها عدم تسليط الضوء بشكل كافٍ على هذا الكدح وعدم التركيز على محوريته بشكل يتوازى مع أهميته، وكذلك وهو الأفدح هو عدم إيلاء دعمه ومساندته الاهتمام المفترض له أن يكون.
فكم نرى ملايين من النساء مثل هاجر في كل أرجاء الدنيا – مع تفاوت الظرف المادي والمعنوي-، يكدحن ساعيات من أجل أطفالهن، في ظروف وأحوال أقل ما يقال عنها أنها عصيبة وبائسة، من أجل تأمين حاجات أساسية وضرورات لا غنى عنها لأبنائهن، في القوت والتعليم والسكن والرعاية الصحية وغيرها، إلاّ أنهن لا يحصلن على ما يسد الرمق ويقيم الأَوَد ويوفر حد أدنى للحياة الكريمة، فالأمهات الأرامل من دون عائل ومعين وكذلك المطلقات بلا دخل مادي أو دعم معنوي يعنيهن، وكل امرأة أخرى – أيًا كان ظرفها- تفتقد لأي نوع من المساندة في سعيها لتأمين حاجات أبنائها المختلفة في أي مكان أو ظرف، هؤلاء كلهن نماذج لهاجر نشهدها ونعاصرها في حياتنا وعالمنا.
لا بد لنا هنا أن نعي الرسالة وندرك المغزى، فهذا السعي المخلص – كدح الأمّ من أجل أبنائها- هو أكبر وأعظم وأقدس سعي ينبغي للإنسانية أن تؤازره، بشتى الطرق الممكنة بل وتبتكر الآليات والأساليب التي من شأنها أن تدعمه ماديًا ومعنويًا.
كلمة أخيرة….
إن هاجر قُدّست كرمز للأمومة الساعية والكادحة التي جازاها الديّان بأن فجّر لها معينًا عذبًا مازال لليوم يسقي البشرية. وذلك لكي تتعلم الإنسانية درسها الأبلغ، وهو أن لا تسمح بأن تبقى النساء على مدار الزمان يسعين ويكدحن بجلّ طاقاتهن دون أفق للارتواء والاكتفاء لهن ولأطفالهن، بل لكي تكون كل خطوة ساعية مصمِمة من أمّ محبة ومخلصة في سبيل أطفالها، هي خطوة مباركة لا بد أن تلاقي ما تستحقه من ثمار إخلاصها وسعيها وكدها، وذلك بينابيع متفجرة ريانة للأبناء في كل مجال وناحية هم بحاجة إليها، وذلك لمساندة الأمهات في سعيهن من أجل تأمين حاجات الأبناء المختلفة. فكل الأطراف هنا لا بد أن تأخذ دورها في هذا السعي وبشتى الطرق الممكنة، فالنبع لن يفجره الله دون سواعد وآليات وجهود مخلصة من الجميع.
نعيمة رجب
جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية
استجابات