التقاعد.. بداية أم نهاية؟
قبل عدّة سنوات حضرت مؤتمرا عالميا معنيا بالتنمية الحضرية في العاصمة الماليزية كوالامبور، ومن أكثر الأمور المثيرة للاهتمام كانت بالنسبة لي هي وجود صف من كبار موظفي الدولة المتقاعدين كمرشدين سياحيين في خدمة ضيوف المؤتمر، فأخبرني أحدهم أن ما يقومون به هو توصية من رئيس وزرائهم السيد مهاتير محمد الذي يعتبرونه الأب الروحي لنهضة بلادهم، تقديرا لجهودهم بأن يستثمر خبرتهم في التوعية بثقافتهم لكبار ضيوف البلاد.
التقاعد مرحلة مفصلية في حياة العاملين والموظفين من النساء والرجال، والكثير منهم ينتظرها بفارغ الصبر، وهي مرحلة هامة يجب الاستعداد لها قبل حلولها بفترة مناسبة، وإلا قد تتسبب للشخص بالاكتئاب ومهاجمة الأمراض بسبب إضاعة الوقت من غير تخطيط جيد، ومن هؤلاء نجد مشاهد عديدة حولنا في مجتمعاتنا.
فهناك من يقضي جلّ وقته في تلميع سيارته، أو برفقة الأصدقاء في المقاهي، أو اللّف في الأسواق وبين عيادات التجميل، أو العمل كمحقّق يتحرّى عن كل صغيرة وكبيرة حوله، وفي أفضل الحالات التنقّل من بلد لآخر في كل مناسبة وغيرها، وهي أنشطة لا بأس بها ما لم تكن هي الوضع العام وتتسبب بهدر الوقت والجهد والمال بدون هدف أو فائدة تُذكر.
فيما هناك وجه آخر أكثر إشراقا حين ينهمك المتقاعد أو المتقاعدة في تحقيق رسالة إنسانية أو بلوغ غاية سامية وترك أثر مستدام، فنجد من يستمتع بتنمية مهارة وتطوير هواية، أو التطوّع في الأعمال الإنسانية، أو البدء بمشروع تجاري، أو نقل خبراته وتجاربه بتدريب الشباب استعدادا لدخول سوق العمل.
كل تلك حلول وخطوات ناجعة يتخذها الفرد بشكل شخصي، ولها أثر إيجابي على نفسيته وصحته، وتساهم في تجديد روحه المعنوية والجسدية لمزيد من العطاء، فالمتقاعدون ثروة وطنية، ولكثير منهم سيرة ذاتية تُكتب بماء الذهب، فيصعب مراقبة خبراتهم المتراكمة تتلاشى وتذوي من غير الاستفادة منها.
ومن المؤسف رؤية بعض الجهات التي تعتقد -من غير قصد- بأنها داعمة للمتقاعدين، بتوفير بطاقات تخفيض للعيادات الطبية والصيدليات على اعتبار أن المتقاعد يعاني من الأمراض المزمنة وينتظر ختامها في الآخرة، ولا نجد في المقابل من يتبنّى أو يستفيد من قدراتهم وخبراتهم التي تضاعفت عبر السنوات.
من الأجدى وضع خطّة وطنيّة شاملة على المستوى الرسمي والأهلي لاستثمار تلك الكوادر بطرق عديدة، فهؤلاء يملكون تاريخا وطنيا وخبرات إدارية وتعليمية ومهارات فنية متنوعة، ماليزيا أعطتنا أنموذجا، وبالإمكان إعداد برنامج متكامل للاستفادة منهم على كافة الأصعدة، فعلى سبيل الأمثلة يمكنهم أن يكونوا مستشارين أو أعضاء مجالس إدارة في مختلف القطاعات، أو لدعم الخريجين والعاطلين عن العمل ومساعدتهم في شق طريقهم بالأساليب الصحيحة، وتدريبهم على الحرف والمهارات وآليات الترقّي الوظيفي وغيرها.
أخيرا التقاعد مرحلة يختار فيها الشخص بإرادته لتكون بداية حياة جديدة مفعمة بالأمل والعطاء، أو نهاية حياة كانت عامرة بالعمل والبناء.
بقلم : م.صبا العصفور
استجابات