الاستثمار في الأمل

نعيش في وسط ملئ بالإعجاز والجمال، وسأركز على جانب اعتدنا رؤيته فلم نعد تتحسس أهمية وجوده وإعجازه. عشت الأيام الماضية اطلع أخرج واتحسس جماله فزادني ذلك عرفانا وشكرا لهذه النعمة، وأصحبكم في بعض الجوانب الجميلة من فيض ما وجدت، وأطرح عليكم الأسئلة التأملية لتتعرفوا عمّا أتحدث عنه:

• تختلف في أحجامها وأشكالها وألوانها، وفائدتها، ومتى تنشط أو تخمل، ويحصل لكل منها تحولات بفترات زمنية، وليس سهلا الربط بين شكلها وما ستنتج، أي لكل نوع منها شفرات برمجية خاصة بها تميزها عن غيرها.
• إن تنوّع وجمال ما تنتجه لا يعتمد على ما تحتاجه من مواد أولية، فما تحتاجه متماثل وبسيط ومتوفر، وليس له طعم ولا لون ولا رائحة.
• لا تحتاج لتوجيه خارجي لإنتاجها، لأنها مبرمجة ذاتياً، وتتصف بوفرة الإنتاج.

إنها البذرة، المثيرة للدهشة، وهي علمٌ لوحدها، فمن حيث التنوّع فهناك الملايين من البذور، وبحسب مستودع سفالبارد العالمي للبذور بالنرويج، فإنه يحمي نسخاً مكرّرة من مليون ومأتي بذرة من كل بلد في العالم تقريبا، ويسع لملاين من البذور الأخرى. وكما بينت آنفاً فلا يمكن لمن لم يعرف البذرة مسبقاً أن يتنبأ بشكل، أو طعم، أو لون، أو حجم ما ستنتجه. كما لا يرتبط حجم أو طول أو وزن البذرة بسرعة انباتها، أو بحجم أو طول النبات، أو بحجم ثماره. فمن أمثلة ذلك: بذرة الأوركيد التي لا تكاد تبين من صغرها تحتاج من ٣ إلى ٨ سنوات لتزهر، فيما بذرة البطيخ الأحمر التي يتراوح طولها من ٠،٤ – ١،٣سم تنتج ثمراً يبلغ وزنه من ١٢ إلى ١٦ كيلو وخلال ٧٠ إلى ٩٠ يوم فقط !! وهناك بذرة جوز الهند المزدوج وهي أكبر بذرة في العالم إذ يصل وزنها إلى ٢٠ كيلو جرام، وفاكهتها قد تصل ٤٠ كيلو – تخيل لو تسقط على أحد!!- تحتاج بذرتها من ٢٥ إلى٥٠ عام لتثمر الشجرة، وأما بذرة (البامبو) الخيزران (تشبه حبة الأرز) فتنتج نبتة هي الأسرع نمواً على وجه الأرض، حيث يمكن لبعض أنواعها أن تنمو لحوالي ٩٠سم في اليوم، أي حوالي 4 سم في الساعة!

أما طبيعة وقدرة البذرة فهي عجيبة، فبذرة تزن مل جرامات تدفع ببرعمها التربة مهما كانت قاسية ليخرج للنور، باتجاه الضوء، فيما يخرج جذرها باتجاه الظلام مع الجاذبية!! برمجة مضغوطة بإحكام وعالية الدقة والحساسية للضوء، ففي عالم البرمجيات فإن البرامج الدقيقة تحتاج لأجهزة الكترونية عالية التقنية لتشغيلها، وتعطب لتعرضها للحرارة أو الغبار وغيرها، فيما يشتغل برنامج البذرة في أبسط وأرخص الأوساط (التربة) وبشكل تلقائي. والأغرب أن البذرة تنمو في التربة التي تُحلّل الكائنات الدقيقة فيها كل ما يسقط عليها، لكنها لا تحلّل البذرة ولا الجذر الخارج منها.
أما عن وسيلة انتشار البذور، فأعجوبة اخرى، فمثلا بذور الفاكهة تنتقل من موطنها لبلدان عديدة عبر تجارة الفاكهة، وتزرع أيضا بعيداً عن أسلافها، لتنتج فصائل جديدة. وبعض البذور ينثرها الهواء لأماكن مختلفة، وبعضها تعلق على الحشرات وفراء الحيوانات فتنتقل لمسافات بعيدة، وبعض الثمار تأكلها الحيوانات وتخرج بذورها مع فضلاتها. ومن جميل ما قرأت كيف لبعض البذور أن تنمو رغم انها مستهدفة للأكل من قبل الحيوانات، مثلا السناجب تنسى مواقع دفنها لحوالي نصف المكسرات (البندق والجوز وغيرها) الذي تذخره كمخزون غذائي لها، فتنبت تلك البذور المنسية لتصبح أشجاراً. إنها وسائل تكفلت الطبيعة بها لانتشار البذور وانباتها والمحافظة على بقائها. كما لا ننسى كرم الطبيعة، ففي الثمرة الواحدة العديد من البذور، مع أنه يكفي لإعادة انباتها بذرة واحدة، فأي كرم تزخر به البذرة! وأي تنوّع يعجز المتأمل في حصره، فليست كل البذور تنمو في كل مكان، وليس طعم ثمارها متشابهاً وليست فوائدها متماثلة، وليس وليس..
من الجانب المعنوي فإن البذور مرتبطة بمواقع جغرافية تشتهر بها، وعملية انتقالها او انتقال ثمارها يعني نقل المعرفة عن تلك البلدان، فتكشف عن مناخها وطعام أهلها وثقافتهم وغيرها، فضلا عن الدروس البليغة التي تنسج عنها، فالبذور عملة طبيعية ثقافية روحية صحية جمالية تجارية تتداولها الشعوب، وغرس البذور استثمار في الأمل المرتقب من إنباتها..
السؤال الأخير: البذرة الساكنة، تتحدى الظلام الذي تقبع فيه، وتنجح في أن تنمو وتزدهر ثمارها وتنتقل لبقاع الأرض جيلا بعد جيل، فهل نجحنا وفي أوساطنا المُشعة بالنور أن ننمو؟ وهل ثمار أعمالنا أملٌ يستحق أن يترقبه الآخرون، وينتقل عبر البلدان وللأجيال القادمة !!

منى العلوي
رئيسة جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية