رائحة المشموم

عند دخولي إحدى العيادات الطبية ملأت أنفي رائحة عطرة فوجهت كلامي لموظف الخدمات بانشراح: “أشمّ رائحة مشموم عبقة في المكان”، فما لبث رجل كبير في السن يقف بمحاذاتي على طاولة الاستقبال إلا أن مدّ يده خلف الطاولة وسحب غصنا من باقة مشموم وحياني به بإيماءة من رأسه وانصرف بدون أن تبدر منه أيّ كلمة، وكانت هذه الحركة كفيلة برسم ابتسامة عريضة على وجهي لأشكره بدعاء “طيّب الله أنفاسك”.

التفتُّ بعدها للموظفين بنفس تلك الابتسامة لأعبّر لهم عن امتناني للطف ذلك الرجل، فأخبروني بأنه دائم التردد على العيادة لعمل فحوصات روتينية، ولا يأتيهم إلا محمّلا بهدايا منوعة إما شطائر للفطور أو علب عصير أو ما تجود به نفسه مما هو متاح عنده وهذه المرّة نصيبهم أوراق المشموم.

سُعدت بلفتة رجل كريم النفس ينثر بذور السرور على من يقابلهم في مسيرته سواء يعرفهم أو لا يعرفهم، ولم تكن السعادة من غصن المشموم بقدر ما كانت من جمال روح ذلك الإنسان التي تشعّ بالعطاء، فقد ترك أثرا حميدا دائما في نفوس هؤلاء الموظفين كما تركه في نفسي، وهذه من تحايا ديننا الحنيف، فيُروى عن أحد أئمة أهل البيت (ع) أن دخلت عليه جارية وبيدها باقة من الريحان فحيته بها، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله تعالى، فهكذا أدبهم ربهم (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا).

صناعة المعروف والطيب بين الناس لا يحتاج مالا وجهدا بقدر ما يحتاج نقاءً في القلوب، فصلاح الحال يبدأ من الداخل، باستشعار الارتباط بالله سبحانه وتعالى ثم الذكاء الاجتماعي بتحسس نفسيات الآخرين.

مسيرة المصلحين تبدأ بطبطبة على كتف موجوع، ومسحة رأس مكلوم، ودغدغة شعور مهموم لحصد ثمار المعروف في المجتمع، وكما كان غصنا ورقيا كفيلا بشرح صدري طوال ذلك اليوم رغم الأنباء السيئة التي توالت على مسمعي، فبالتأكيد شربة ماء وضحكة صدق ودعاء من القلب يمكن أن تذكرنا بأن الخير مازال في الدنيا باق.

ما الذي يمنعنا من بناء جسور المودة وروابط الأخوة حولنا؟ لتبقى البصمة الجميلة وإن غاب صاحبها حتى لو كانت ورقة مشموم.

بقلم: م.صبا العصفور

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *