جسر العبور

بين التألّم والتألّق، والمعاناة والإبداع، والحرمان والإبتكار، مسافة إرادة تقطعها أنفس استثنائية، تصنع عظمتها بتحويل أنينها وحرمانها ووحدتها إلى منجز إنساني وحضاري يثري المسيرة البشرية. فموت البصر لطه حسين كان صرخة ولادة لبصيرة أدبية مبدعة، والسمع الذي فارق بتهوفن كان وصاله لأعذب موسيقاه التي أنتجها، ومرارة روزا باركس بسبب العنصرية أثمرت “لاءها” الشهيرة التي انتهى على إثرها التمييز العنصري.

إنها نوع الإستجابة التي اختارها كل من رفض أن يكون على هامش الحياة، بعد أن اختبر أقسى ما بها وذاق أمرّ ما فيها، وملك القدرة والصبر والجلَد التي اكتسبها وهو يواجه آلامه ومعاناته. واختار طريق الإنجاز والعطاء والإبداع مستثمرًا كل لحظة حرمان ووجع عاشها، لكي يشيد صرح إنساني في الأدب والطب والحقوق والموسيقى والتكنولوجيا وكل إضافة أخرى تُراكم خبرات الإنسان وتعزز معارفه وقيمه.

إننا اليوم… وبوصفنا نساء وحراك نسوي، لا بد أن نعي هذه الحقيقة ونؤمن بها. كوننا رزحنا تحت أحقاب من التهميش والإقصاء بلا حق، وعشنا وحشة الأسوار المضروبة حولنا ظلمًا منذ آلاف السنين، وصلبنا فوق أعمدة الإمتهان لأرواحنا وعقولنا – وحتى أجسادنا عند البعض- على مرأى من العالم ومسمع. لا بد لنا من اجتياز هذا الجسر الذي يربط بين معاناتنا الطويلة وإبداعنا، ونقطع تلك المسافة ما بين أوجاعنا وإنجازنا، ونمشي دون توقف على الصراط المار على جحيم أشجاننا متجهًا إلى نجاحنا وتألّقنا.

ونحن نودع عام ونستقبل آخر، حيث تجرى عمليات الجرد لكل ما فات، وتوضع المخططات والاستراتيجيات لكل ما هو آتٍ وقادم. من الجيد أن نطرح سؤال على أنفسنا، كنساء أفراد أو تكتلات أو حركة نسائية حملنا على عاتقنا مسؤولية النهوض بالمرأة. أين نقف من كل ما مر وإلى أين نحن سائرات؟، ما هو تقييمنا لمسار حركتنا السابق؟. هل استوعبنا نجاحاتنا وبنينا عليها، وتعاملنا مع فشلنا ووضعنا له خططًا تعويضية؟. هل تضمنت برامجنا خططًا تستثمر امكانيات المرأة وطاقاتها وتحيل معاناتها إلى إنجاز مبدع؟.

إننا اليوم نمتلك فرص كثيرة لم نمتلكها من قبل، كوننا نعيش في عصر مختلف ومغاير عما سبق، حيث المنجزات توثق لأصحابها والتجارب والخبرات يراكم بعضها بعضًا، ولغة العقل والمنطق هي اللهجة الشائعة والمعترفة بين الشعوب المتحضرة، وثقافة الحقوق هي من الإنتشار بمكان. لذا فالظرف مواتٍ لأن تظهر كل قوى وامكانيات المرأة المحجوبة، وأن تكمل منجزاتها التي لم تعد خافية على أحد، سيما وقد نالت هذا العام ثلاث نساء جائزة نوبل للسلام. لكنه وعلى الرغم من ذلك مازال الطريق أمامنا طويل والتحديات كبيرة، فالأغلال خُففت لكنها لم ترفع، وهي تتشكل بحسب كل زمن وكل مجتمع وكل عرف.

لنحثّ الخطى إذن ونشمر عن السواعد، ونعمل على جعل عامنا الجديد هذا ميدان عمل ونشاط دؤوب ليغدو نقطة التحول والانطلاق للمستقبل الذي ننشد والحياة التي نأمل.

إن المنجزات العظيمة غالبًا ما تكون نتيجة ألم عظيم، والعظماء أصبحوا كذلك لمّا صنعوا من آلامهم ومعاناتهم معول عزم شيدوا به صروحًا لحضارة الإنسان. وكذلك كل امرأة ورجل وقفوا على جسر العبور بين المعاناة والإبداع وقاموا باجتيازه، سائرين نحو منجزات ناجحة تساهم في نماء العالم.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

naeimaar@yahoo.com

مقالات ذات صلة

حوار مع الدكتورة/ وجيهة صادق البحارنة – رئيسة جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

كيف نشأت فكرة تأسيس جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية ؟وإلى ما يرجع التميز في برامج وأنشطة الجمعية؟ جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية منظمة استشارية في المجلس الاقتصادي…

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *