الخيار الذي أحيا أمّة

مفارقة غريبة، كيف في كثير من الأحيان لا يصل الإنسان إلى أمنه وسلامه إلاّ عبر اقتحام ساحات خوفه وفزعه، وخوض ما يهابه ويحذره وتجربة ما يتحاشاه ويتجنبه. وكأنها الثمار الحلوة ذات الأغصان الشائكة، حين لا نصل إليها إلاّ بإدماء أناملنا. إنّ هذا هو درس أمّ نبي الله موسى لكل خائف وواجل، أن يتجاوز تلك العقبة الكؤود ويجتاز ذلك الطريق الموحش وهو الخوف والفزع، ليستطيع نوال ما لا يستطاع بغير ذلك وما لا يمكن إلاّ عبر هزيمة الإنسان لمخاوفه والانتصار على هلعه وفزعه. فقد وقفت هناك أمّ موسى قرب اليمّ وألقت بوليدها إليه، متجاوزةً في نفسها خوفها – وهو خوف كل أمّ حينما تكون في ظرف شبيه- من أن يلتهمّ البحر فلذتها. وسجّلت بذلك حكمة فريدة: وهي أن مطالبنا الغالية لا نبلغها إلاّ حينما نعلو خوفنا ونسمو على هواجسنا.

إن ما فعلته أمّ موسى بوحيٍ من الرحمن كان في ظاهره مغامرة بحياة وليدها عبر تعريضه للغرق، لكن في باطنه كان إنقاذ ونجاة له من موت محقق على يد الفرعون، إذ في إلقائها موساها الصغير إلى اليمّ وسيلة، ولعلها الوسيلة الوحيدة المتاحة لها حينها، لخلاصه من الخطر الذي يهدد حياته. ولكن هذه لا تستطيعها إلاّ أنفس تعلّمت كيف تتجاوز مخاوفها وكيف تتعالى على وجلها وهلعِها. إنها حكاية إمرأة قبرت خوفها، ورصفت فوقه طريق لحياة نبي، وبالتالي خلاص وهداية لشعب وأمّه هو مبعوثٌ إليها. وعلمتنا بهذا أن أمانينا العظيمة لا نصل إليها وآمالنا العزيزة لا نلمسها، إلاّ إذا نبذنا مخاوفنا وانفصلنا عن هواجسنا.

إن الخوف في كل زمان ومكان هو رديف العبودية والهوان، وهو المصدّ العنيف لأي موجة إصلاح أو نماء أو تطوير، والمعطل والمجهض والقاتل لكل منجز بشري ونجاح إنساني. فطالما عاش ملايين من البشر وماتوا دون تحقيق ما يتمنوه من نجاح ورقيّ، ولَكَم بقيت شعوب تحت نير مستعمريها لأحقاب، وأبرياء قضوا جلّ أعمارهم تحت سياط جلّاديهم، كل هذا لأنهم كُبّلوا بمخاوفهم وارتهنوا لوهم عجزهم. وفي المقابل نرى المصلحين والمخترعين والمبدعين وكل عظيم آخر منح الإنسانية قيمة وجوهر، كيف أنهم أصبحوا ذلك وأضافوا الكثير في مسيرة هذا الإنسان، معارفًا وعلومًا ومناهج ومخترعات وغيرها، فقط حينما تجاوزوا خوفهم من الفشل واجتازوا وجلهم من الانتقاد، وعبروا بسلام توجّسهم من اضطهادهم وفزعهم ممن يعادي التغيير في محيطهم.

إنه تحدّي كل  إنسان على وجه الأرض، مهما تفاوت في موقعه أو تأثيره أو ظرفه، فكلنا نصبح عظماء حين نهزم الخوف داخلنا وننتصر على الهواجس في ذاتنا، لنتجاوز عقبة أو أكثر، أو نتقدم خطوة أو مرحلة، باتجاه نجاحنا الذي نأمله وإنجازنا الذي نتمناه. فأنفسنا ومحيطنا ووطننا وكوكبنا بحاجة ماسة اليوم وأكثر من أي وقتٍ في السابق، لأنفس شجاعة وجريئة آمنت بقدراتها ووثقت بطاقاتها ونبذت على إثر ذلك خوفها وتوجّسها في سبيل أن تبني وتعمّر وتشيّد وتنهض بعالمنا وإنسانه.

كما كانت أمّ موسى فيما مضى، حين منحت الكثير للعالم والتاريخ والإنسانية، بإرادتها الصلبة وطاقة عزمها الكبيرة، لمّا هزمت الخوف داخلها لتقوم بما قامت به من فعل عظيم في إنقاذ الكليم، فهي لم تتصرف بقدرة سماوية مجردة أو طاقة تسديد إلهية فقط، لكنها وإضافةً لذلك هو فعلها وجهدها الخاص وعملها الذاتي المتميز والخالص، الذي مزجته بإيمانها العظيم بوعد الله ويقينها الكبير بحصول تسديداته.

فهل لنا بعد هذا كله في أمّ موسى… أسوة ومنهاج.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

naeimaar@yahoo.com

مقالات ذات صلة

ملحمة على ضفاف اليمّ

في كثير من الأحيان، يكون الحب والشجاعة وجهين لعملة واحدة، والعشق والبسالة خارطة لذات الطريق، والحميمية والجرأة عنوان لموقف مستقل. إنه تلاقي المعاني التي تصنعها…

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *