قلوب خضراء

في مساحات البشر تتزاحم (الخطوط الحمراء)، تلك الأسوار غير المرئية التي يضعها أغلب الناس لحماية أنفسهم والحفاظ على ما يعتبرونه الأهم في حياتهم، فتراهم يحاربون بكل طاقتهم لتبقى هناك معايير ثابتة تعمل كدفاعات مقدسة تحول دون مساس أكثر أجزاء كيانهم –المادي أو الاعتباري -أهمية وحساسية، فكم سمعنا من يقول: إن هذا الشيء هو خط أحمر أو إن ما حدث لي يمس خطيَ الأحمر…

ولكن هل لنا أن نتساءل إن كانت هناك خطوط أخرى لحماية أجزائنا الروحية والنفسية؟ والحفاظ على مستوى من الخصوبة والوفرة فيها لا يقل؟ ويكون حرصنا على وضعها هو حرصنا على سعادتنا؟    -وهذا بوصف روحية المرء وضميره ونفسيته هما ضمان سعادته الدائمة والأصيلة، بشكل لا يقل عن كيان الإنسان المادي والاعتباري إن لم يتفوق عليه أحيانًا-.

تلك الخطوط الجديدة أو المعايير ولنسمها (الخطوط الخضراء) أو ما شئنا من التسميات لا يهم، هي أن نحتفظ لأنفسنا بما يجعل من حياتنا ذات معنى ومضمون، ومستوًى يضمن لذواتنا الداخلية السعادة والانسجام مع كل ما في الكون من موجودات ونُظُم. إنها –الخطوط الخضراء- تضفي على كينونتنا خصوبة وتكلل أرواحنا بالانشراح والحبور. وهي عبارة عن مساحة واسعة ومتنوعة من القيم والمفاهيم: كالعطاء للآخرين دون انتظار عوض والمحبة والإيثار وخدمة بني الإنسان دون شروط…، وكذلك أن نجعل في حياتنا مكانًا لقضايا عالمنا وهموم البشر من حولنا، نبذل فيها ونكافح من أجلها دون أن يكون محورنا ذواتنا وهمومنا فقط.

وهي واقعًا بعكس الخطوط الحمراء التي تزيد من تحلقنا حول ذواتنا وتنفخ (الأنا) فينا. فهذه تجعل قلوبنا مخضرّة وتوحدنا مع غيرنا من البشر، لأنه حينها سنرقى بمحفزاتنا وهمومنا إلى مستوى أكمل وأجمل ينظر إلى الدائرة الأوسع والمدى الأبعد. حيث نمنح بسعادة عالمنا وأخوتنا من بني البشر ثمرة جهودنا وسعينا.

ولا شيء يمنح الإنسان سلامه الداخلي وسعادته مثل وضع مثل هذه الخطوط الخضراء في حياته وعلاقاته ودوائر التماس بينه وبين الوجود من حوله. لأنها قوام الروح كما الطعام للبدن ودونها تجف النفس لتغدو كصحراء قاحلة ناهيك عن أنها لن تنمو وتزدهر وتتكامل. وهذا ما أجمعت عليه وصايا السماء وموعظة الحكماء وكذلك التجربة الإنسانية: إن حياة الإنسان لذاته فقط هي ليست بحياة بل هي بحرٌ من التعاسة يغرق فيه من لم يدرك لذة الحياة لهدف سامٍ له ولغيره من البشر.

إنها ثقافة خلاّقة تستطيع أن تبني وتعمّر وتنشر المحبة والسلام في كل اتجاه ومهما كان حال الواقع حالكًا وبائسًا، لأن هذه الثقافة ترى الربح والغنيمة فيما يُعطى لا فيما يُملك، وراحة البال والسعادة فيما يُبذل لا ما يُستحوذ عليه حيث أن أشرف غاية ينبغي أن يسعى إليها الإنسان هي خدمة الوجود وإنسانه.

لنرسم إذن خطوطنا الخضراء نزيّن بها كياننا ووجودنا.. ونقلل بها من مساحة الأنانية فيما حولنا، لأننا لن نستطيع أن نحقق السلام والمحبة في عالمنا دون أن نجعل من قلوبنا خضراء بالعطاء للآخرين.

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

info@bahrainws.org

مقالات ذات صلة

أسمـاء رجـب: (نزاعات الدول الإسلامية وانهيار السـلام المجتمعي يخدمان الآخـر)

المنامة: حمدي عبد العزيز الانخفاض في مؤشر السلام العالمي وتوسع جغرافيا النزاعات في العالم الإسلامي، دفع جمعية البحرين النسائية والمؤسسة البحرينية للمصالحة والحوار الوطني، إلى…

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *