في انتظار الشروق

هل نحن أحياء!؟. سؤالٌ كهذا ربما نصفه بالسذاجة، حتى وإن كنا أكثر عمقًا في نظرتنا للحياة وماهيتها، وفي كوننا لا نفصلها عن الاستقامة في سلوكنا وتفكير نا، وكذلك في كوننا نقرنها بخيارات صائبة في علاقاتنا وردود أفعالنا وتصرفاتنا. إلاّ أن هذا السؤال الساذج! رغم ذلك يعتبر الأكثر حكمة عند بشرٍ آخرين، من الذين بصروا معنى الحياة وأدركوا سعادتها وتذوقوا حلاوتها، في أمورٍ لا نكاد نشعرها في يومنا هذا الطاغية فيه ثقافة التحلّق حول الذات وحاجاتها وهمومها.

إن هؤلاء البشر يرون حقيقة الحياة وروح الجمال والإلهام فيها في التحرر من أسر الأنا ورغباتها وأطماعها، والإتجاه بالذات نحو همّ الأرض والبشرية ونحو منح الحب وإجزال العطاء المثمر للإنسان والعالم، دون انتظار عائد أو مغنم اللهم إلاّ السعادة الداخلية المتحصلة من تقليل مساحة المعاناة الإنسانية. وإنهم بهذه البصيرة  يدركون كم هي حياتنا تفتقد إلى روح نابضة وأعمارنا كم هي خاوية ومملة وبلا أي معنى بعيدًا عن هذا الوعي، فهم لا يتصورون أن طعم الحياة الطيبة يمكن أن يتذوق حلاوتها بشر دون هذه البصيرة، بل لا يمكنهم استيعاب كيف ندّعي أننا أحياء ونحن لم نمتلئ بهذه الروح المشرقة التي تستوعب العالم عطاءً وبذلاً.

إننا نعيش حياتنا للأسف من غير هذا الوعي الذي يمتلكه هؤلاء ذوي الأرواح المشرقة، هذا الوعي الذي يدعونا لأن نلتفت إلى ما هو أكبر وأوسع من ذواتنا الصغيرة، وأكثر أهمية من همومنا الضيقة اليومية ولو رأيناها بحجم العالم. هذا الوعي الذي ينادينا في كل حين بأن نتوقف عن اكتفائنا بمستوى التجربة والسعادة والإلهام الذي نحصل عليه، وأن نشرع في محاولة التفكير فيما هو أجمل وأروع وأعمق إلهامًا مما نحياه اليوم ويحجبنا عنه تمحورنا حول قضايانا البسيطة ومشاكلنا الصغيرة، والتحليق عاليًا نحو العالم الكبير بهموم إنسانه المتشعبة وقضاياه الواسعة.

حتمًا إن هذه البصيرة ستجعلنا نعيش حياتنا كما ينبغي بملئها لتصبح بألف حياة. فذاتٍ تتطلع سعادتها عبر كفكفة دموع أطفال شرّدتهم الكوارث والحروب، وعبر إشباع أجساد جائعة وهزيلة وإيصال دواء لأبدان متألمة وسقيمة، وقلوب لا ترى سرورًا إلاّ عبر جبر قلوب أخرى كسرتها الفاقة والظلم، وعقول لا تهتني بمعرفة وعلم إلاّ بأخرى تضيف إليها نورًا مما عرفته وتعلمته، وغيرهم الكثير ممن هم على نهجهم. إن بشرا كهؤلاء حتمًا تكون ذواتهم بحجم العالم وقلوبهم باتساع الأرض، لأنهم تحرروا من سجن أناهم إلى رحاب كل الإنسانية، وستكافئهم الحكمة الربانية – كما فعلت دائمًا مع أمثالهم- بسعادة حقيقية عميقة وثابته ومستمرة، لا تؤثر فيها تصاريف الحياة وتقلباتها، لأنها استُمدت مما هو أعمق من الحياة نفسها، من روح القيم الخالدة التي لا تموت.

نحن نمتلك اليوم فرصا غير محدودة لنصبح أحياءً بحق وكذلك سعداء، وأن نحتوي داخلنا أرواحًا مشرقة ومتألقة بكل ما يحمل هذا من مضامين إنسانية واسعة وعظيمة، بعيدة عن الأنانية وأسر الرغبات الآنية والأطماع الشخصية. فازدياد مساحة معاناة الإنسان واتساع هموم البشرية ومشاكلها وقضاياها، هي فرص متتالية لنا تطلب منا أن ننبري لنأخذ مواقعنا لنغيّر ونصلح ونضيف ونعطي، لنوقف عجلة آلام البشر بعصا أرواحنا المحبة المخلصة في عملها وبذلها للإنسانية والعالم. فذلك الأفق هو ما تنشده أرواحنا التواقّة للإشراق.. فمتى يا ترى يكون شروقها.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

bahws@batelco.com.bh

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *