أنّى نُحيي فطرة التضامن

بعناق القطر يولد نهر الحياة، هكذا الطبيعة تعلن كلمتها في مجرى الكون، بتلاقي الجزء مع الجزء.. والذرة مع الذرة.. واللحظة مع اللحظة. في سنّةٍ كونية تتناسخ صورتها في كل الأبعاد، وفي صوتٍ أزليٍ يستنطق عقل الإنسان ويستنهض وعيه: أن يا بني الإنسان يا جزءًا من هذا الكون ويا جسدًا للبشرية، أنّى تلملم أجزاءك وتُوّحد أعضاءك، أنّى تنساب وتذوب بغيرك لتكون قطرًا في نهر الحياة تكتمل وتُكامل، أنّى تمنح إنسانك من إنسانك روحًا من تعاضد ونَفَسًا من تضامن وتآزر، أنّى تصبح كأجمل الصَدَفَات في شطآن الدنيا حين تلتم وتقترب وتلتحم.

فكم هو مؤسف ما يخسره العالم جرّاء تقوّض فطرة الرحمن التي تنزع للتلاحم والتشارك والتعاضد..، وكم هو مؤلم ما يحدث لبني الإنسان لمّا فرّط في رَحَمِه الإنساني لتُبعثر بعده روح الأنس والوصل والدعم لنظيره الإنسان. والنتيجة الشجينة أن جواهرًا في الحياة رأيناها تضيع لأنها لم تلقَ إلاّ سواعد وحيدة، ومعاني للصلاح والخير شهدناها تبيد لأنها لم تظفر إلاّ بهمم يتيمة، ولكم نهضة للحب وإرادة للإحسان بصرناها تموت في مهدها وتتلاشى لأنها لم تلقَ إلاّ أكتافا عن بعضها غريبة. ناهيك هذا عن استمرار معاناة الإنسان وبؤسه واتساع رقعة فاقته وفقره.

في اليوم الدولي للتضامن الإنساني ندعو لإنعاش روح التضامن في حياة البشر والمجتمعات، ليعود هذا المعنى كما خلقه الله فطرة أصيلة في نفوس بني الإنسان، تتعدى كونها ردا لفعل أو حالا ظرفي أو واقعا استثنائيا، إلى التعامل معه كضرورة وجودية وأساس إنساني، وبوصفه فعل مبادر ونهج إنساني مستمر وأصيل يرتكز عليه كل ازدهار وتكامل وتطور للعالم والبشرية. متجاوزًا بذلك كل صورة نمطية حجزته في إطار مواجهة فاقة الإنسان وآفاته المادية، إلى بعد آخر ومستوى جديد يرى في التضامن استحقاقا ينبغي أن تؤديه البشرية برضا وحب لبعضها، في شتى أسس الحياة ومجالاتها وجوانبها.

فالتضامن الذي نعنيه هنا وندعوه إضافةً لمعانيه الأخرى، هو كذلك تأييد ودعم كل إرادة للتحسين في مجتمعاتنا وكل همّة للتغيير صعودا ورقيًا في عالمنا، وكذلك في التحام البشر لبلوغ كل معرفة منيرة وفكرة مضيئة واتحادهم في كل سلوك نزيه ونهج مجدد وأصيل يحتاج لتضافرٍ للجهود وانسجامٍ للعقول في سبيل بلوغه وتحقيقه وترسيخه والتغيير باتجاهه، وأيضًا من زاوية أخرى فإنه كذلك يعني مسكًا بزمام المبادرة أمام كل ما يهدد حضاراتنا وإنساننا في قيمه وثقافته الإنسانية والحضارية.

إن فعل التضامن بهذا المعنى في الحقيقة كفيل لو بُثت روحه في العالم، أن ينقل الإنسانية لأفق سعادتها الممتد ونمائها المتواصل وازدهارها المتسع، لأنه حينها لن تكون البشرية شتاتًا في غاياتها وأحلامها وهمومها، بل ستكون في طور تخلّقها من جديد كما أراد لها الرحمن كجسد واحد إذا شكا وتألم منه عضو لم يسكن سائر الجسد حتى يجبر الضرر.

لنحيي فطرة التضامن في ذواتنا التي هجرتها، فذلك هو نداء السعادة والحضارة، متجاوزين فيه عن كل اختلافاتنا وفروقاتنا ومتسامين عن أطماعنا ومصالحنا.

فذلك النهج حقًا يجعلنا.. في نهر الحياة قطرًا لا يفنى.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

bahws@batelco.com.bh

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *