أصلها ثابت وفرعها في السماء

ما أشبه البشر بالشجر، إذ كلما ضربت جذورها في الأرض عمقاً، تعالت فوقها الجذوع شُمّاً وأينعت ثمارها الغضة، فالجذو ع الصلبة والثمار الطرية، رديفٌ دائم للجذور العميقة في الأرض الطيبة. مثلما الإنسان حين ترتبط ذاته بجذوره العميقة والنقية، حيث تاريخه وثقافته وقيمه وحضارته، يغدوا ممتلئاً قوياً واثقاً، مندفعاً نحو مستقبلٍ أكثر إشراقاً وأعظم علواً وثرءاً. حيث يستجيب هذا الإنسان لأصوله وعراقته، ذلك الذي يتمتع بحس الإكتفاء “الإيجابي”، الذي يدعوه لتثمين وتقدير جذوره وتاريخه والإستلهام منهما، وفي ذات الوقت يبني فوقهما ويراكم عليهما، دون أن يصاب بآفة الإكتفاء “السلبي” الذي يدفعه إلى الرفض والإنغلاق في مواجهة كل ما هو خارجي ومغاير لتراثه وتاريخه.

من تلك المنصة ومن ذلك الثراء الفريد والإكتفاء الملهم والمحفّز، نتمنى اليوم للمرأة العربية انطلاقتها، إذ في جذورها قيماً نقية وعروبة أبية، وأدياناً سماوية نُزّلت على أرض أسلافها، وأنبياء لله عاشوا بين أجدادها، وعظيمات وعظماء شيدوا صروح للمعارف وساحات للفنون، وكان فيهم رواد في شتى العلوم وقادة وفرسان في كل صعيد، كما سجّلوا وحفظ لهم التاريخ إندماجاً وإلتقاءاً مع غيرهم المخالف لهم في الإنتماء والدين والأرض، فلم يُعرف عنهم إنغلاق أو عصبية أو إنكفاء على الذات، بل كانوا مغمورين بروحية الإنفتاح والتفاعل مع الآخر. فحطموا بذلك الحواجز وساروا نحو الإندماج المثمر والحوار البناء وتبادل المعرفة الحقّة والعلم المفيد مع المختلف. فهذا ابن رشد ولد وعاش في الأندلس “إسبانيا” وتأثّر وأثّر فيها وتبادل المعارف مع علماء الغرب حينها، وهذا ابن سينا قضى جلّ حياته في بخارى “أوزبكستان” وتلقّى فيها العلوم والأدب والفقه.

تلك هي جذور المرأة العربية وتاريخها النضّاخ والمتوهج، فمن الغبن أن لا تحمل ثراءها هذا وتمضي به فاتحةً آفاق نجاحها وتألّقها، كشعلة تضيئ لها الطريق وتذكّرها دوماً أنها يجب أن تقود مشروعاً رائداً للإنسانية، في المعارف والفنون والحقوق والعلاقات والأديان والعلوم الأخرى المتنوعة، وأن تكون ملهمة ومعلمة وصاحبة السبق لكل خير لبني البشر كما كان يفعل أجدادها. إنها مكاسب كثيرة تلك التي ستحصدها المرأة العربية إن جعلت جذورها وتاريخها على سطح وعيها.

في مقدمتها، هو إدراكها أن ما تطالب به من حقوق ليس جديداً أو مستحدثاً، بل هو إرثها الفكري والأيدلوجي –النقي منه- الذي منحها حقوقها كاملةً دون تمييز بينها وبين الرجل، بل دعاها وحثّها لأن تعمل جاهدة وتناضل ليسود الإنصاف وتُنال الحقوق وتُظفر بالمطالب، كما كان يناضل أجدادها منذ قديم الأزمان لنصرة قضاياهم ونيل حقوقهم، وقد اعتبروا هذا السعي جهاداً وشرفاً وكرامة. إن تلك الشخصية المرتبطة بتلك الجذور حتماً ستكون جاذبة لكل خير وحسَن من أعمال وأفعال ومعارف وأفكار، ونافرة من كل ما هو ضار وغير نافع بحكم صفاء تلك المنابع وعدالتها وارتباطها بأديان السماء وسيرة المصلحين.

بنقاء ذلك الميراث وانفتاحه وخصوبته نطالب المرأة العربية في يومها العربي، أن تستعيد زمام السعي والريادة في قضايا مجتمعها والعالم، وأن يكون تاريخها هو انطلاقة معراجها والمُلهم لتفوقها وتميزها. وتصبح هي كما كان أجدادها رسالة المحبة والمودة بين شتى الإنتماءات والأوطان والأديان والطوائف والأفكار والأيدلوجيات. وأن تصنع في ذاتها صورة الإنسان النموذج في عصرنا هذا والذي تجتمع فيه قيم الأصالة والعصرية، وبالتالي تساهم في تشييد المجتمع الفاضل الإنساني، بوصفه صورة للمدنية والحضارة التي تقوم على أساس القيم التي لا تفنى.

وعليه.. على المرأة اليوم أن تسقي جذورها وتاريخها في نفسها، لكي لا يندثر ذلك الوهج ويضيع، فإن به تستطيع أن ترقى عنان السماء، لتلمس النجوم نجاحات ومنجزات، تضيف بها الكثير لأمتها وعالمها.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

naeimaar@yahoo.com

مقالات ذات صلة

حوار مع الدكتورة/ وجيهة صادق البحارنة – رئيسة جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

كيف نشأت فكرة تأسيس جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية ؟وإلى ما يرجع التميز في برامج وأنشطة الجمعية؟ جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية منظمة استشارية في المجلس الاقتصادي…

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *