تعدد الزوجات اللعبة القديمة الحديثة

يقول أمير الشعراء أحمد شوقي : إن اليتيم هو الذي تلْقى له

أماً تخلّت أو أباً مـشغـولا

وإني بهذه المناسبة أذكر قصة مأساة أليمة حدثت في إحدى الدول المجاورة، إذ جاءت للمحكمة امرأة تحمل طفلين صغيري ن تشكو زوجها الذي طردها من بيتها بتأثير أبنائه الكبار من غيرها منكراً لزواجه بها حتى لا ترث أو يرث أبناؤها منه فيستجيب لما أراده أبناءه الأولين، وقد مضى على هذه الزوجة الثانية نحو العامين ضائعة مهملة وهي فقيرة تسأل الناس القوت والمأوى.

إنّ تعدد الزوجات لا يكون حلاً للمشكلات الأسرية والاجتماعية بل قد يفتح باباً لمشكلاتٍ أكثر، ففي حالة تعدد الزوجات يتسبب غياب الأب المتكرر عن المنزل مشاكل في تربية الأبناء ويساهم في تشرّدهم مما ينتج عنه  جرائم عدة، أضف إلى ذلك أن الزوج يفقد أهلاً كان يحبهم وكانوا يحبونه ثم يصبحون خصوماً له، فلعبة تعدد الزوجات تهدد كيان الأسرة وترحب بتفكك الأسر وقضايا المحاكم والمشاكل الاجتماعية التي تأتي بالجملة نراها تزداد كيلا بعد كيل.

ويتعذّر المؤيدون لتعدد الزوجات دون وضع ضوابط شرعيّة تكفل حقوق جميع الأطراف بالآية القرآنية وهي قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا)(النساء:3) في حين أن الباحث بجمعية التجديد الثقافية الأستاذ عيسى الشارقي توصّل إلى أن الآية التي يعتمد عليها الفقهاء على أنَّها المشرعة للتعدد الرباعي، لا علاقة لها بالتعدد، وقوله مثنى وثلاث ورباع هو شيء آخر غير اثنتين وثلاث وأربع، فمثنى معدول من اثنين اثنين، وثُلاث من ثلاثة ثلاثة ورباع من أربعة أربعة ويخلص في رأيه إلى أن الآية تتحدث عن تزويج وتزوج اليتامى من الذكور والإناث، فمن أراد باباً للقسط في اليتامى، والقسط هو منتهى العدل فلا يكتفي بالرعاية لهم صغاراً بل تمتد رعايته لهم بالتزويج وتكوين البيوت لهم، مثنى: يتيمتين أو يتيمين يزوجهما بزوجتين أو زوجين فيفتح لهما بيتين إن توقفت قدرته على المثنى ومن لم يستطع ذلك فليزوج أو يتزوج يتيمة أو يتيمًا واحدًا، ذلك أقرب لأن (أَلَّا تَعْدِلُوا) أي تنكصوا وتتراجعوا بسبب الثقل، (فواحدةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ( أي بحسب ما تقدرون عليه ولو بالمساهمة، كل جماعة تزوّج يتيما أو يتيمة وتكفلهم .

وإن الرأي الذي توصل له الباحث رأيٌ رصين يعطينا أفقاً جديداً ويفتح لنا باباً لمنظور مختلف للتعامل مع هذه الآية القرآنية الشريفة ويرشدنا إلى أن هذه الآية تناقش مسألة كفالة اليتيم وليس كما ذهب له المشرعة بتشريع التعدد الرباعي للزوجات متجاهلين ومتغافلين أن مثنى هي معدول من اثنين اثنين، وكما ذكر أمير الشعراء أن اليتيم هو من تخلت عنه أمه وغرق أبوه في انشغالاته سواء في تجميع المال أو النساء.

إنّ انغماس الرجال في لعبة تعدد الزوجات بطريقة غير ناضجة واستغلالهم الخاطئ في تفسير الضوابط الشرعية التي تجيز للرجل الزواج بأكثر من زوجة يعد مشكلة حقيقية، فالتعدد بدون سبب واضح وهدف سام وترتيب مسبق وحاجة ملحّة أو دون مقدرة من النواحي المالية والصحية يجلب لصاحبه في أغلب الأحيان المشكلات المستمرة ويخلق نوعاً من عدم التوازن الأسريّ كما يؤدي إلى اضطرابات عائلية وعلى رأسها الزوج نفسه فغالبا ما نراه مضطربا نفسياً وأحيانا انعزالياً هارباً من المجتمع ونظراته، هذا بالإضافة إلى الصعوبات المالية التي تنعكس بآثارها السلبية مستقبلا على أفراد الأسرة بأكملها، وكذلك ما يفرزه التعدد من سلوكيات سيئة كحب الانتقام وهذا بدوره يشكل عبئا نفسيا كبيراً على الزوجة الأولى والأبناء فيجعلهم في نظر الآخرين إما محل تقليل وازدراء وإما محل شفقة وكلا الحالتين لها تبعاتها النفسية والاجتماعية.

هذا ناهيك عن حالة موت الأب، فإن هذه المشاكل تزداد شدةً بعده في اقتسام الميراث والحيلة في إخفائه حتى تصير أحقاداً يرثها أبناء هذه العائلة وثم أبناؤهم من بعدهم، وإن لم يترك لهم ميراثاً لعن الأبناء أباهم في اشتغاله بتوفيره لذاته دون أن يفكر في التوفير لهم أو إخراجهم قادرين بالتربية والتعليم على لقاء الحياة .

وفي خضّم حديثنا عن هذه الظاهرة لا يمكننا أن ننفي ازدياد وعي المجتمع بآثار عدم وضع ضوابط شرعية لتعدد الزوجات حيث قالت دراسة اجتماعية أجرتها الشؤون الاجتماعية في دولة الكويت في العام 2007 تحمل عنوان “تعدد الزوجات في المجتمع الكويتي-منظور سوسيولوجي” والتي أجريت على 200 مفردة في مختلف محافظات دولة الكويت خرجت بأن نسبة 42% من الذكور يركّزون على الاتجاهات السلبية تجاه مسألة تعدد الزوجات، وهذا يدلنا على زيادة وعيهم بأن مسألة تعدد الزوجات دون ضوابط شرعية وقانونية تؤثر سلباً على هيكلية الأسرة والمجتمع.

فتعدد الزوجات تاريخيا تعلق بالحروب والأرامل والحاجات الخاصة، وهذه الحالات ليست مستمرة بل هي بحسب الحاجة إليها أي أن التعدد يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحسب حاجة المجتمع إليه، ولا يكون الزواج بثانية أو ثالثة أو رابعة هدفه إشباع رغبة لا يمكن السيطرة عليها والتحكم فيها كما يذهب إليه بعض الرجال الذين يمارسون التعدد بدون ضوابط وبدون رضى الزوجة الأولى، وما كان في السابق أمراً مقبولاً ليس بشرط أن يتقبله الناس الآن، خذ مثالاً مسألة الإنجاب في فترة السبعينيات والثمانيات حيث كانت الأسرة تنجب 8 أطفال وبالرغم من أن كثرة إنجاب الأطفال “حلال” إلا أنه يستحيل على أفراد مجتمعاتنا المعاصرة أن تخطط الأسر فيها لإنجاب أكثر من طفلين أو ثلاثة فاحتياجات الزمن تغيرت وتغيرت معها عقليات الناس بحسب ظروفها المعيشية.

وكما حدث تقنين لمسألة الإنجاب في عدد من دول العالم ليتمكنوا من تعديل التعداد السكاني من أجل تعليم وتمكين كل فرد من أفراد المجتمع، أيضاً هناك عددٌ من الدول ذات الغالبية المسلمة تطبق قوانين تمنع تعدد الزوجات من قبيل تركيا ، البوسنة والهرسك ، أذربيجان وتونس التي كانت أول دولة عربية تجرّم تعدد الزوجات في العام 1956 وهو العام الذي استقلت فيه البلاد، فيما تشترط قوانين بلدان أخرى منها ليبيا والمغرب حصول الزوج على إقرار خطي يقضي بموافقة الزوجة على زواج زوجها من أخرى.

ولن نجد أقوى مبرر ومبرهن سوى قوله تعالى في سورة عبس (آية 33-36) “إِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ” وفي سورة المعارج (آية 11 – 13) “يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ”

أي عندما يكون المرء في أفزع حالاته يوم القيامة يتخلى عن أقرب الناس إليه ومنهم صاحبته “وليس صاحباته” إذن الأصل في الزواج أن يكون بين رجل وامرأة متحابين ومتفاهمين وهو الوضع الطبيعي القائم على المودة والرحمة وسكون النفس للنفس.

حميدة فروتن

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *