التأسيس لثقافةٍ مجتمعيّة أخلاقيّة جديدة في الطلاق

كتبت : تقية النجّار

لم ينتظر كي يكون في مكانٍ بعيدٍ عن الأعين لا تصل إليه الأسماع، بل كان يعبّر بتشنجٍ عن انحطاطه الأخلاقي في الشارع وأمام المارّة، “رجلٌ” منفعلٌ ي خبر آخرَ عن نيّته في أن يذرها كالمعلّقة، بل ويقسم أن يجعلها خادمةً في بيته! يتابع: لقد بلغت الأربعين من العمر، لديها من الأطفال ستة، فلماذا تريد الطلاق؟ ماذا تأمل من الحياة؟ من سوف يتزوجها؟ أومأ الآخر برأسه موافقاً. أضاف “الرجل” ثم إن جلوسها أمام الإنترنت أفسد أخلاقها، علّق الآخر “نعم.. هكذا هنّ النساء، الله يعينك عليها”!

وفي مشهدٍ آخر تتواجه امرأةٌ و”رجل” أمام رواق المحكمة الشرعية، أمام الجميع ترجوه ألا يطلقها، فيصرُّ أنه فاعل، وأنه لا يريد رؤية وجهها.

من المؤسف أن ما أسرده مواقف عاينتها في زيارة واحدة للمحكمة الشرعية، وهناك ما هو أسوأ؛ فقد جاء في خبر محليٍّ مطلع يناير الماضي أنّ زوجاً لأمٍ بحرينية تبلغ 23عاماً، أخذ منها رضيعها ذي العام والنصف، وطردها من المنزل الذي تقطنه معه، وهدّد برمي الرضيع من الطابق الثاني، ولم يكتفِ بذلك بل استمر يتصل بالأم ليسمعها بكاء رضيعها، ويخبرها بأنه سيتركه يبكي حتى يموت، ذلك لأنها تقدّمت بشكوى ضده في المحكمة الجعفرية طالبةً منه الطلاق! والأدهى والأمرّ أن استنجادها بالشرطة لم يُجدِ نفعاً فهم ينتظرون انعقاد جلسة الاستماع في المحكمة! [i]

وفي الحلقة النقاشية الثالثة التي نظّمتها جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية تبعاً لمشروعها (المرأةُ.. نظرةٌ تجديدية) والمختصة بموضوع الطلاق، تحدّثت إحدى النساء –وقد كانت في حالة صحية سيئة- عن حجم الأذى الذي تعرّضت إليه بعد رفعها لقضية الطلاق، ابتداءً من سرقة الزوج للنوافذ والأبواب، وتغيير أقفالها، والقذف اللفظي، والمكتوب على جدران المنزل، انتهاءً إلى العنف الجسدي والشروع في قتلها!

وذكرت صحيفة أخبار الخليج مؤخراً؛ أنّ طليقاً لامرأةٍ خمسينية بات يبتزها بنشر صورها الخاصة وتشويه سمعتها من أجل حفنة من المال، وذلك بعد أن قضت المحكمة بطلاقهما لخيانته لها مع أختها، التي لم يلبث أن تزوجها بعد تطليق الأولى مباشرة. [ii]

***

أزمةٌ أخلاقية

في السنوات القليلة الماضية بلغت نسب الطلاق في البحرين معدلاتٍ عالية جداً، ففي إحصائية للمحاكم الشرعيّة بوزارة العدل والشؤون الإسلامية، نشرتها صحيفة الوقت، تبيّن أن (1280) زيجة، أي بمعدل 30% من الزيجات التي تمّت في العام 2008 والبالغة نحو (4400) عقد زواج؛ كان مصيرها الطلاق، الأمر الذي دعا مجلس النواب إلى إقرار مقترح يقضي بدراسة أسباب زيادة الطلاق في البحرين وإيجاد الحلول المناسبة لعلاجها. [iii]

وبغضِّ النظر عن أسباب الطلاق والأرقام المهولة التي تطالعنا عليها الصحف بين الفترة والأخرى، نتساءل عن جانب اليسر والرحمة والإحسان الغائب في فض العلاقة الزوجيّة، فإذا تنافر الزوجان وكان لابد من شر الطلاق فلماذا التعسّف فيه؟ ولماذا الإكراه والإمعان في الظلم والإذلال والكذب والتعنّت وانتهاك الحقوق؟ ولماذا أضحت الإساءة للزوجة هي القاعدة، يشذ عنها قليلٌ ممن يسرّحون بإحسان؟

إن هذا السلوك يكشف عن أزمة أخلاقية كبيرة يعاني منها مجتمعنا بل ومجتمعاتنا الإسلامية كافّة، ويميط اللثام عن عقليّة ذكورية تسلطيّة ترفدها معتقدات دينية باطلة يراد لها أن تحتكر دين الله في القيمومة والولاية والوصاية، عقليّةٌ آن أوان نسفها، فظواهر العنف الأسري وإذلال المرأة، من ضرب وسلب لحقوقها الطبيعية ليست إلا ترجمة فعليّة للاعتقاد بقصور عقلها، وسذاجة عاطفتها، ونقصان دينها، واعوجاج منطقها، وتدنّي أخلاقها، ودورها الأزلي في الإغواء، ونتيجة لفهم خاطئ واستخدام مغرض للروايات والآيات في شأن المرأة.

ولا أدلّ على ذلك من دراسة ملفتة أعدّها المجلس الأعلى للمرأة أفادت أن عدد حالات الطلاق بسبب العنف الواردة إلى مركز شكاوى المرأة التابع للمجلس في الفترة من 2007- 2009 بلغت 427 حالة، منها 155 بسبب العنف الجسدي، 134 جراء سوء المعاملة والإهمال وإنكار الأبوة، 85 بسبب الخيانة الزوجية والعلاقات غير الشرعية وسوء أخلاق الزوج، إضافة إلى 53 حالة للعنف اللفظي. [iv]

فإن كان العرف والإرث الثقافي والتديّن المزعوم السبب وراء استمرار “ظلم المرأة” مرضاً يسري في أوصال المجتمع، وإن كان منطق الرجال والقضاة في تعسّفهم في الطلاق وترك إجراءات التقاضي في المحاكم لتطول حتى تلتهم من عمر المرأة ربيعه يأتي من اعتقاد الرجل بامتيازه، وأفضليته المطلقة المصكوكة بشريعة الله لأنه “ذكر”؛ حينها وجبَ إعادةُ إرساء الحقوق كما جاء بها القرآن الكريم وأكّدتها سيرة الرسول (ص) المباركة، واستقراءُ وتتبع وصاياه الشريفة من أجل إلغاء هذه الثقافة المعوجّة مهما تلبّست بلبوسٍ دينيّ.

***

المعروف والإحسان

(الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)  (البقرة: منالآية229)

النصّ القرآني جاء بكلمة “معروف” نكرة الدالّة على عموم المعروف، وكذلك كلمة “إحسان”، وللنكرة أثر في حركة مفهومي المعروف والإحسان في الأجيال والمجتمعات، فالتنكير ليس عبثاً، إنما ليعطي الفقه سعة زمانيّة ومكانيّة للتشريع الحقوقي، فما أقرّته من حقوق للمرأة أو للإنسان في العصر الأول من الرسالة هو معروف في زمانه، وقد يعتبر قاصراً عن عصرنا هذا؛ بسبب تطور الوعي الحقوقي بالذات، ونصّ الوحي يستوعب التجديد والشمول لكل ما يتوصل إليه وعي الأجيال والمجتمعات، فالدين من أولوياته إقرار هذه الحقوق.

هذا ما أشار إليه فضيلة الشيخ أحمد العريبي الذي أكّد على أنّ المبدأ الأخلاقيّ الحاكمَ للعلاقة الزوجية والمبني على قاعدة (وعاشروهن بالمعروف) يبقى كما هو لا يتغير عند الطلاق لصريح قوله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)، بل حال التسريح ينبغي فيها توفير حالة الإحسان وهو حال أرقى من المعروف.

وأهم صور التسريح بإحسان بما يناسب المنطق والإنصاف اليوم وبما يحفظ حقوق المرأة وكرامتها تتجلى في التالي:

* عدم إمضاء أي نوع من أنواع الطلاق التعسفي بما يمليه هوى الرجل وتعودّه المزاجي في التخلي عن الأشياء وهدم الصداقات والعلاقات بغير سبب وجيه، لأنه يعتبر مجافياً تماماً لآية فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ.

* حفظ كرامة المرأة المطلّقة وعدم البوح بأسرارها وخصوصياتها.

* الإنصات إلى أدلّتها والتحرّي منها لإنهاء إجراءات الطلاق.

* إنصاف المرأة في الحقوق المالية المتكونة وقت حياتهما لزوجية؛ لكونها شريكة حياة، فلا تخرج صفر اليدين وقد بذلت زهرة شبابها في هذه الشراكة، فالمرأة المطلقة قبل أن يمسسها الزوج تستحق بحكم النصّ القرآني متاعا بالمعروف كما قال تعالى: (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:236) فكيف بعد مسّها!؟

* حقها في حضانة أبنائها إلا أن يثبت قصورها الإداري والتربوي والعاطفي عن الحضانة، أو ثبوت تضرر مصلحة الأبناء حال حضانة أمهم. [v]

***

بين العقد والميثاق الغليظ

وفي هذا الإطار كان الباحث الأستاذ عيسى الشارقي قد دعا لاستخدام التسمية التي أطلقها القرآن الكريم على الزواج، قائلاً “أسماه الله ميثاقاً، وزاد عليه بأنه (ميثاقٌ غليظ)”. وأضاف “لمّا سمّاه الفقه (عقد) شابته شوائبُ العقود التجارية، وتشرّبت إليه عقليّة ومزاج البيع والشراء، ولكن الله سبحانه لم يسِّمه عقداً، بل ميثاق، وقال أنّ آخذ الميثاق هو المرأة وليس الرجل”.

وأشار الأستاذ الشارقي إلى أن آخذ الميثاق في القرآن غالباً ما يكون (الله) كجهة عليا (وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً)، فجعل المرأة في هذا الارتباط هي آخذة الميثاق، وإذا أردنا فك العلاقة فهناك الطلاق، ولكنّه ليس لفظاً مقابلاً للميثاق، بل يقابل الميثاق (نقض الميثاق)، ونقض الميثاق حرام، والطلاق ينبغي ألا يكون نقضاً للميثاق فهو ليس خارجاً عليه وإنما داخلٌ فيه، فكل ما فيه نقض للميثاق فهو ليس بطلاقٍ صحيح، وإنما هو جور وهو نقض وحرام، فينبغي النظر والتشريع للطلاق بطريقة لا تنقض الميثاق”.

وتساءل الشارقي “لست أدري فيما لو أعدنا النظر في تسمية هذا الارتباط بين الرجل والمرأة، وأبدلناها من تسمية الفقه لتسمية الله في كتابه، ما الذي ينبغي علينا أن نثبته وما الذي علينا أن نغيره من مدونات الفقهاء؟”.

***

جهود لوثيقة جديدة

لقد حاولت جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية في الحلقة النقاشية الثالثة ضمن مشروع (المرأة.. نظرة تجديدية) البحث عن أسبابِ الفجوةِ الراهنة بين التشريعات القرآنيّة والتطبيقات العمليّة في قضايا الطلاق، وعن الكامنِ وراء التسلط الممارس ضد المرأة في المحاكم الشرعيّة، وتفعيلاً لتوصيات الحلقة النقاشية بادرت الجمعية بتقديم مقترحٍ للإتحاد النسائي البحريني يدعو إلى تبني (وثيقة عقد زواج معدّلة) تؤسس لإطار قانوني يحفظ حقوق المرأة في عقد الزواج.

جاء هذا الخطاب على خلفية مقترح تقدّم به المحامي عبدالله الشملاوي خلال مداخلته في الحلقة النقاشية الثالثة لتعديل وثيقة الزواج الحاليّة، والمساهمة في التخفيف من حدّة الأضرار الواقعة على المرأة البحرينية بعد الطلاق، والتأسي ببعض البلدان المتطوِّرة في هذا الجانب.

وقد تم توجيه تلك المبادرة إلى الاتحاد النسائي البحريني نظراً لتبنِّيه لملف الأحوال الشخصيّة، واطّلاعه على الكثير من قضايا الطلاق وتبعاتها من نفقة وسكن وحضانة في المحاكم الشرعية.

وعلّق الدكتور علي فخرو في الحلقة النقاشية قائلاً “إن محاولة تغيير رأي الفقهاء في تلك القراءات المتعلقة بالكثير من جوانب الزواج ستأخذ سنينا إن لم تأخذ قرونا، وبالتالي ستظل هذه المشاكل التي تطرح دائماً باقية” واقترح أن تُوجِد الدولة عقد زواج يحتوي على كل التفاصيل المُختلف عليها عادةً ليُتفق عليها قبل الزواج، كتلك المتعلقة بالطلاق والحضانة والنفقة وحق العمل والضرب والتعدد.

كما أكّد الدكتور فخرو على أهمية أن يكون القضاء سلطة مستقلة غير خاضعة للسلطة التنفيذية، ليكون الإصلاح إصلاحاً حقيقياً نابعاً من داخل المؤسسة.

***

المخرج

لابد من إيجاد منفذ قانوني وديني للتأسيس لواقع اجتماعيّ مختلف يضع اعتبارا لإنسانية المرأة، ويحرص على تثبيت الحقوق للطليقين دون أن يبغي أحدهما على الآخر، ولابد من حراك مجتمعي دؤوب ومتواصل لطلب التغيير، فالمحاكم الشرعية الجعفريّة بحاجة لقانون يحد من المماطلات والتعسّف وسطوة ومزاجية القضاة الشرعيين، فوراً ودون تأجيل، بل وينبغي فصل قضايا الأسرة بقوانينها عن المحكمة الشرعيّة باعتبارها قضايا مدنيّة، إضافة لتدريب القضاة والمحامين على التعامل مع قضايا الأسرة لحساسيتها، وفتح المجال كي تتولى النساء مناصب مهمّة في القضاء لإلغاء التمييز ضدها وأحادية النظرة.

أمّا من الناحية الدينيّة فعلى رجال الدين المنصفين تحرير الإرث الثقافي الإسلامي على وجه الخصوص من الهيمنة الذكوريّة بشطب المفاهيم المعوجّة من كتب الفقه أولاً ومن ثمّ من أذهان الناس، أمثال “لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها” وغيره، حتى يقف الرجال والنساء سواء أمام مسؤولياتهم الحقّة ويقوموا بما عليهم من واجبات، ويأخذ كل منهما حقوقه دون انتحال لأيّة مكانة موهومة.

وفي هذا الميدان فإن لجمعية التجديد الثقافية مساهمةٌ جليلة، في طرح مقاربات تجديديّة لإشكالات الفقه الإسلامي السائد الذي أقصى المرأة قروناً، مستندةً على منهج خاص في قراءة القرآن الكريم، منطلقةً من الجذر الأول في الخلق والمعصية، وصولاً إلى موضوعات ضرب المرأة، والقوامة، والولاية، وقانون الأسرة وغيرها.

كذلك ينبغي أن يسعى رجال الدين إلى تأصيل المبادئ الإسلامية الكبرى الحاكمة في العلاقات الزوجيّة كالإنصاف والمعروف والعدل والإحسان، ونشر هذه الثقافة الحقوقيّة التي تضمن الكرامة للمقبلين على الزواج، وبيان مركزية الحقوق في الدين الإسلامي.

كما يجب على الباحثين الاجتماعيين ومراكز الدراسات والبحوث أن يعكفوا على إجراء دراسات دوريّة، لتكون مؤشراً يُقاس به تطوّر وعي وقيم وأخلاق وضمير وفكر وسلوك المجتمع برجاله ونسائه في قضيةٍ تعد من أهم قضاياه الحقوقيّة.

[i] صحيفة الوسط، العدد: 2676، الأحد 03 يناير 2010م

[ii] صحيفة أخبار الخليج، العدد: 11658، الاثنين 22 فبراير2010م

[iii] صحيفة الوقت، العدد: 1458، الأربعاء17 فبراير 2010م

[iv] صحيفة الوقت، العدد: 1459، الخميس 18 فبراير 2010 م

[v] مقتطف من ورقة جمعية التجديد الثقافية لفضيلة الشيخ أحمد العريبي المقدّمة في الحلقة النقاشية الثالثة لجمعية البحرين النسائية  (إمساكٌ بمعروف.. أو تسريحٌ بإحسان).

مقالات ذات صلة

حوار مع الدكتورة/ وجيهة صادق البحارنة – رئيسة جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

كيف نشأت فكرة تأسيس جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية ؟وإلى ما يرجع التميز في برامج وأنشطة الجمعية؟ جمعية البحرين النسائية للتنمية الإنسانية منظمة استشارية في المجلس الاقتصادي…