غائب رغم حضوره

اعتاد على الدخول لمنزله عبوس الوجه، وكأن هموم الدنيا قد حملها على عاتقه، وعندما يهمّ بفتح الباب، تكادُ تسمع طقطقة أرجل أبنائه، كل واحد منهم تراه يذهب لغرفته، فلقد اعتادوا على ما سيكون عليه الحال بعد عودته، إنه سيّلا من الصراخ والتأفف، ومن ثم يبدأ برنامجه المتكرر، فبعد أن تناول وجبة الغذاء، وقد قدّم لزوجته التعليقات والملاحظات، تراه مرتميًا على أريكته ، وعندما يفتح عينيه بعد غفوة أخذها، يبدأ في تصفح جوّاله، وبعد هنيئة ، يخرج أطفاله من جحورهم، لعل أعصابه قد سكنت وهدأت، وحسُن مزاجه، وعندما يراهم، تراه لا يأبه بحضورهم، بل يبقى متصفحًا لهاتفه، وعندما يُحدثونه يقدّم تعليقًا ساخرًا، أو نصيحة لاذعة، حينها ينظر كل منهم للآخر، تاركين موقعهم معه.

إن الوجود الفعلي والحقيقي للأب في محيط أسرته، وتفاعله مع أبنائه بشكل خاص، لباعثٌ على الإطمئنان النفسي لهم، وله دور كبير في تشكيل هوياتهم الجنسية، فيتعارك مازحًا لهم، فيلعب الكرة معهم، يشاركهم في تصليح سيارته، أو بعض الأجهزة المنزلية المعطلة، أو مساعدته في بعض أعمال النجارة أو الكهرباء…إلخ، أو يأخذهم لمجالس الرجال التي منها تتطور شخصياتهم ، كما هو عبدالمطلب جد رسول الله ” ص” الذي اعتاد على أخذ حفيده محمد لمجالس الرجال، فكان يجلسه بالقرب منه، مستمعًا للأحاديث والنقاشات والأخبار، فلما رأى جده تركيزه على كلام الكبار، قال مقولته : إنّ ابني هذا سيكون له شأن عظيم”.

 ومما لا شكّ فيه أنّ ممارسة الأب للأنشطة مع أبنائه، ودوره الفاعل معهم، يبني جسور التواصل الفعّال ، ويعزز هويتهم الذكورية لديهم.

لا يقتصر الأمر على أبنائه الذكور، بل تراه هو هكذا مع الإناث منهم، “والدي أفضل رجل في العالم” هذا ما وصفته إحدى البنات والدها، فالأب له دور كبير في حياة بناته، وتعزيز الهوية الأنثوية لديهن، فالقبول الذي تلقاه البنت من والدها يحميها مستقبلًا من أي علاقة غير سوية مع الرجال، أو اختيار خاطئ لشريك الحياة، فقبول والدها لها، واشباعها عاطفيًا من خلال المعاملة الحسنة معها، يجعلها تعتز بأنوثتها، حيث ترى هذا الإعتزاز في عين والدها واحتضانه لها بكلّه.

كل هذا يعزز من الهوية الجنسية للأبناء، ويمنحهم الثقة والقبول لأنفسهم، وكل ما يقدّمه لهم، يكون ذا قيمة وأهمية بالنسبة لهم، فيرون الأب هو ملاذهم، ومنطلق للتعبير له عن أفكارهم، مشاعرهم، ومخاوفهم، وتواجده معهم يمنحهم شعور بأنه قدوة ، وملجأ لهم في أفراحهم، أحزانهم، ويفخرون بوجوده بينهم وقدوة حسنة لهم، فهو صمام أمان في حياتهم.

لا يدرك الأب الغائب الحاضر بين أبنائه، بالأثر الذي يتركه غيابه رغم حضوره بينهم، وفقدهم لتواصله الفعّال معه، وغياب ملاطفته ولعبه معه، فلا تراهم يتعلمون منه، ما يكشف ويعزز هوياتهم، فتراه مشغول بنفسه، فيكون غائب رغم حضوره بينهم.

بقلم: أ. نجاح اسماعيل

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *