دعوة مفتوحة

عجيبٌ كم يتهاوى البشر أمام إغواء القدرة، لتسقط في امتحانها أمنع حصونهم، فينفثوا سمومهم مظالم في كل اتجاه، لتصبح عندها ك لادعاءاتهم في نبذ الظلم مجرد شاهد بائس على مقدار ما غالطوا أنفسهم وخادعوا محيطهم، فهويتهم المتوارية قد لاح ظلامها بمجرد أن قدروا وتمكّنوا.

ومن هنا ينطلق استفهام يستفز غرورنا نحن البشر وهو أقوى من كل إجاباتنا المفتعلة: هل تحتوي ذواتنا طاقة ظلم غير مفعّلة؟، هل ضعفنا وقلة حيلتنا هي المصد الوحيد لذاك الوحش بداخلنا لأن لا يخرج فاغرًا فاه يلتهم البشر والحشر؟، ماذا يتوارى في أعماقنا لا نعرفه!؟، وماذا يكمن فيها لا يمكن حتى أن نتخيله!؟، وأخيرًا كيف لنا أن لا نكون ببشاعة من غفل وتناسى لوهلة أنه من جنس البشر؟.

إنها دعوة لتأكيد أبعادنا الإنسانية في كل حين، بما هو أكثر من الإدعاء أو القول أو حتى القناعة والإيمان دون تجربة واختبار للذات. هنا لا يحفظنا من أن نطغى ونتوحش إلاّ الإنسانية بطابعها العملي المستمر وسلوكها الحياتي اليومي، بالممارسة الحثيثة وامتحان الذات في كل قيمة ندّعيها أو مبدأ نتبجح به. فلسنا صادقين إن لم نمارس الصدق ولو على أنفسنا، ولسنا صالحين إن لم نعش الصلاح ولو ضد مصالحنا، ولسنا أتقياء إن لم نتق الله في ضعيفٍ ملكنا القدرة على ظلمه.

إنها المسافة بين الإنسانية والبهيمية في حياة البشر، فمن يا ترى يظفر بإنسانيته نازعًا ثوب السباع من كيانه وذاته، ومن يا ترى يلثم روحه الإنساني يحفظها لأن لا تتلوث بمظالم وخطايا وشرور، وأيهم يصون نهر حياته من أنجاس ظلامات غيره. إنها أشرف غاية وأزكى مطلب هو الظفر بذات نقية عصية على التلوث ثابتة على قيمها ونقائها.

ربما يقال إن إنساناً بهذا الصلاح في عصرنا مكانه لا يتعدى خيالات الواهمين وأطياف الحالمين. نعم قد يكون هو ذاك –وإن كنا لا نرى الواقع بذلك اليأس لوجود نماذج مازالت متماسكة في إنسانيتها ونقائها- ولكن، لا بد لنا رغم ذلك أن ننشد هذا النوع من البشر ونعمل للوصول إليه، فهو ضمانة بقائنا كمجتمعات إنسانية تحيا مع بعضها كبشر يشعر ويحب ويتعاطى ويتألم ويتشاعر، دون أن ينجرف للطغيان ولسحق غيره إن وقف ضد هواه ومصالحه.

إننا هنا لا نتحدث عن مطلب كمالي أو غاية مرفّهة، إنما عن هوية إنسانية باتت مهددة في عالمنا ومعرّضة بشكل خطير لأن تتلاشى وتندثر من أجيالنا الحالية والقادمة، بكل ما تحمل هذه الهوية من معانٍ وقيم عملية تنأى بالإنسان بعيدًا عن شرعة الغاب وثقافة الظلم والافتراس عند أدنى مكنة ومقدرة على ذلك.

إنها دعوة مفتوحة لتفتيت التوحش في دواخلنا، فالشرّ الذي تتسابق إليه البشرية اليوم ما هو إلا سباقها نحو اندثار كل ما تبقى من إنسانيتها، وإن انقرضت هذه الأخيرة في مجتمعاتنا الحالية لن يتبقى لنا إلاّ أنياب نلوك بها بعضنا، لأنه حينها سنكون مجرد ذئاب تتنازع فرائسها، ليترسخ حينها مبدأ الغاب الأول (البقاء للأقوى). فهلاّ أدرك إنسان عصرنا هذا فداحة ما يجترح كيانه وذاته!

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

bahws@batelco.com.bh

مقالات ذات صلة

أسمـاء رجـب: (نزاعات الدول الإسلامية وانهيار السـلام المجتمعي يخدمان الآخـر)

المنامة: حمدي عبد العزيز الانخفاض في مؤشر السلام العالمي وتوسع جغرافيا النزاعات في العالم الإسلامي، دفع جمعية البحرين النسائية والمؤسسة البحرينية للمصالحة والحوار الوطني، إلى…

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *