من قبل أن نُستهلك

بإزاء الإرادة ستقف الأصالة شامخة، رغم كل ما يراد لتشويهها ومسخها وتحويلها إلى كائن بلا ملامح، وبإزاء العزيمة الصلبة وثبات القيمة المحمولة، لن تستطيع أي قوة ولا إغراء أن تنال من هوية المرء الأخلاقية والروحية. تلك حقيقة تهمسها في أعماقنا التجربة البشرية، التي تثبت بما لا يدع مجالاً للشك فيه أن الإنسان الصلب والمتماسك في أصالته، باستطاعته أن ينجو من كل عمليات التغريب والسطو على مكامن ثرائه وتميّزه.

إن الثقة بتلك الحقيقة هو جوهر ما نحتاج إليه في الحاضر، ليمنحنا الاطمئنان أننا قادرون بالإرادة والعزيمة أن ننتصر ما حيينا لأصالتنا وقيمنا وكل معانينا البيضاء. حيث أننا اليوم وأكثر من أي وقت مضى بحاجة لاستدعاء كل مستويات وعينا واستنهاض كل بعد أصيل في أنفسنا وحياتنا، مع تحفيز كل إرادة وعزيمة ممكنة لنواجه طوفان غامر وإعصار عات، يريد لإنساننا أن يكون مجرد مستهلك نَهِم لنتاج غيره – ماديًا كان هذا النتاج أم أخلاقيًا -، وشعوبنا مجرد أسواق ورفوف متراصّة يُعرض عليها كل شيء للبيع، في ثقافة مستذئبة كل ما فيها قابل للإستهلاك وللدعاية وللبيع والشراء.

في هذه الثقافة التي ترسّخنا كمستهلكين – أو سلع-، دون حد أدنى من التمحيص لما يُعرض علينا أو التقييم لما يُدفع إلينا لاستهلاكه وابتلاعه من سلع أو ثقافات أو عادات…إلخ. فإن إنساننا يتعرض لأكبر عملية طمس لهويته الأخلاقية والوجدانية والروحية، ليصبح مجرد رقم على خارطة المنافع والأرباح لغيره، وصورة صغيرة في لوحة كبيرة- ممسوخة- لم يرسمها هو ولا تمت لقيمه بصلة أو نسب. إنساننا هنا يراد له أن يكون دمية جميلة لا روح فيها ولا إرادة تحتويها فاقدًا القدرة على التقييم والاختيار، ليتم تحريكه وتشكيله  ليكون مجرد مستهلك، ومستهلك فقط.

إننا هنا نحتاج أن نتخذ موقفا حازما وحاسما أمام أنفسنا قبل غيرنا، فلسنا خواء ولم نكن يومًا كذلك، بل نمتلك – بكل فخر- تراثا سماويا وحضارة إنسانية عريقة شيدت على أصالة المعاني ونقاء القيم، ونحتوي في ذواتنا مكنة تقييم (وفلترة) فطرية، تعزز لدينا قدرتنا على تقدير كل ما يرد إلينا، هل سيضيف أم سيؤخذ منا.. هل سيمنح بعدنا الإنساني نماءً أم سيزيده اضمحلالاً.. وهل سيوسّع من مساحة الحب والتراحم والإخاء فيما بيننا أم سيختزل كل علاقاتنا ليصنفها بمقدار العائد المادي منها.

هنا نحن لا ندعو إلى رفض كل ما يأتينا من خارج سياقاتنا وثقافاتنا، ولا نرفض بالمطلق أن نكون مستفيدين من نتاج غيرنا، بل ما نريده في واقع الحال أن نضع نصب أعيننا أبعادنا الأخلاقية والروحية لتكون كمصدّ أمام كل ما يناقضها ويعاكسها وإن تلبّس بالتحضّر والمدنية والحداثة. وإذا أردنا أن نكون مستوردين لابد وأن نفعل ذلك بوعي ودراية، وفي اتجاه موازٍ نصدّر لغيرنا شتى نتاجاتنا المضيئة – الروحية والأخلاقية…-، لتتحرك بذلك عجلة الحضارة البشرية صعودًا وازدهارًا في كل أبعادها.

قد يكون هذا الأفق المطلوب هو مثالي مقارنةً بواقعنا الحالي، إلاّ أننا بأمسّ الحاجة إليه لكون أصالتنا أضحت تُضرب كل يوم في مقتل، وإنساننا يُبتغى تحويله إلاّ هجين تتبدل ملامحه على حسب ما يُقدّم إليه ليحتويه ويستهلكه. فلننهض إذن ثابتين.. ولنجعل إرادتنا تقف بإزاء أصالتنا المهددة وقيمنا المستهدفة لتدرأها وتحميها وتحفظها.

نعيمة رجب

جمعية البحرين النسائية – للتنمية الإنسانية

bahws@batelco.com.bh

مقالات ذات صلة

استجابات

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *